كلما صدر بيان مصرف ليبيا المركزي الشهري، كان ذلك مناسبة للنقاش المنطقي والعقلاني بين أصحاب الرأي، كما يُعد مادة إعلامية دسمة للخوض في واقعنا الاقتصادي، والبحث في مسبّباته، وطرح الرأي والحلول المناسبة أمام واقع من السهل شرحه ومن الصعب جدًا تلافي انعكاساته ومداواة جراحه.
بيان المصرف المركزي الشهري—على الرغم من كونه الوثيقة الوحيدة التي تطلعنا بشكل دوري على الإنفاق والإيرادات الحكومية واستخدامات النقد الأجنبي—يزيد من حالة الغموض والإرباك، ويأخذنا في منعطفات جانبية بعيدًا عن دوره الأساسي الذي يبدو أنّ تحدياته تتعاظم يومًا بعد يوم.
الواقع أنّ المصرف المركزي، بحكم عمله وقانونه ودوره الأساسي في الاقتصاد، معنيّ بأن يعبّر عن الوضع الاقتصادي بأبعاده المختلفة (وهذا ما يعرضه تقليديًا عبر نشرته الربع سنوية)، وأن يقيس حالة الاستقرار الاقتصادي ومدى استخدامه لأدوات السياسة النقدية لضبط الإيقاع وضمان استدامة الاستقرار عبر مؤشراته الأساسية، ومن ضمنها المؤشرات المصرفية كحركة الأموال، وعرض النقود، ونشاط سوق النقد بين المصارف ومع المصرف المركزي، ومعدلات الفائدة وتغيّراتها وتحركاتها وفقًا للمعطيات المالية والاقتصادية.
إلا أنّ المصرف تحوّل اليوم إلى ناشر لبيانات الإنفاق والإيراد، ويتصرف في عرض البيانات كما يشاء.
يشير البيان الشهري الأخير إلى نقص الإيرادات المورّدة من مبيعات النفط خلال الأشهر الأخيرة، وهو ما يترك القارئ في حيرة وتوجّس كبيرين. فهل يعود ذلك إلى حجب إيرادات لم تُورد إلى المصرف المركزي؟ ومن له المصلحة في القيام بذلك؟ ولماذا لا يتم توضيح هذا اللبس وإجراء مطابقة مع المؤسسة الوطنية للنفط، التي توقفت عن نشر بيانات كميات الصادرات وقيمتها، ما عمّق حالة الغموض؟ أم أنّ السبب هو تراجع أسعار النفط عالميًا؟ وهذا يبدو الاحتمال الأقرب. وعلى أي حال، فإن كلا الحالتين تفرضان تقديم مبررات واضحة.
لا شك أنّ عرض التقارير ذات الطابع الاقتصادي الوطني يحتاج إلى حالة من التناغم والتطابق بين المؤسسات الاقتصادية المعنية—سواء المؤسسة الوطنية للنفط، أو وزارة المالية، أو ديوان المحاسبة، أو المصرف المركزي—من حيث العرض والتوقيت.
أمّا مسألة انخفاض واستخدام الاحتياطيات لدى المصرف المركزي لتغطية الفجوة بين الإيرادات والطلبات على العملة الأجنبية، فمع الإشارة إلى أنّ قيمة الاحتياطيات قد زادت بالمجمل بسبب ارتفاع أسعار الذهب، إلا أنّ ذلك لا ينسجم مع أساسيات الحيطة والحذر في التعامل مع تقلبات الأسعار العالمية. كما يكشف عن تحوّل في طريقة حساب الاحتياطيات لدى المصرف، الذي ظل لعقود لا يعيد تقييم أرصدة الذهب والاستثمارات بحسب القيمة السوقية. وهنا يبرز السؤال: لماذا لم يُفصح المصرف عن أسباب هذا التغيّر في طريقة التقييم؟ وهل يسعى إلى تضخيم قيمة الاحتياطيات لإرسال رسالة معينة حول استدامتها، طالما أنّ ارتفاع أسعار الذهب عالميًا يصبّ في صالحه؟
في المقابل، لا يتعاطى التقرير مع الواقع الصعب جدًا المتمثل في أزمة السيولة والطلب الجامح على النقد الأجنبي، وهي أزمة وجد المصرف المركزي نفسه داخلها بسبب تعطل قدرته على إدارة السياسة النقدية بسلاسة ومهنية.
كما يشير التقرير الشهري إلى تحقيق فائض بين الإيرادات الحكومية والإنفاق الحكومي، لكنه يقدّم إشارة مبهمة، كونه لا يتضمن إلا إنفاق حكومة واحدة من الحكومتين، ولا يوضح مقدار تمويل الحكومة الأخرى بشكل شهري حتى تتضح الصورة. ويكتفي المصرف من حين إلى آخر بالإشارة إلى تزايد الدين العام الذي يقوم هو نفسه بتمويله منفردًا.
لا خلاف على أنّ مصرف ليبيا المركزي يعمل في ظروف قاسية ومرتبكة، إلا أنّ ذلك لا يُغني عن تقديم الحقائق كاملة وفي الوقت المناسب.


