Menu
in

كيف نحمي ثروة ليبيا عبر إعادة هيكلة المؤسسة الليبية للاستثمار؟


‎منذ اللحظة التي أُنشئت فيها المؤسسة الليبية للاستثمار عام 2006، كانت الرؤية واضحة: أن تصبح ليبيا من الدول التي تستثمر فوائض النفط خارج دورتها الاقتصادية المعتادة، وأن تُنشئ احتياطيًا طويل الأمد يحمي الأجيال القادمة من تقلبات الطاقة والاقتصاد العالمي.

الفكرة كانت أن يكون لليبيا صندوق سيادي يستثمر فوائض الثروة النفطية و يسحب منه في أوقات الأزمات أو عند وجود عجز بالموازنة كأداة طويلة الأمد قادرة على الاستجابة عند الحاجة.

وبعد ما يقارب عقدين من الزمن، لا تزال المؤسسة الليبية للاستثمار،وفقا لتقييم أجرته بالاستعانة ببيت خبرة مؤخرا ارتكز في أغلبه على القيمة السوقية لأصول قد يكون العديد منها معطلة أو محجوزة، هذه الأصول مجتمعة بين أصول في شكل شركات استثمارية غير مجمدة وأصول أخرى أكثر سيولة في شكل ودائع وأدوات استثمار سائلة، مجمدة بفعل قرار مجلس الامن الدولي، وتقدر إجمالي الأصول ما بين 65 إلى 70 مليار دولار، لكن القيم الكبيرة وحدها لم تكن كافية لضمان أداء واضح، أو شفافية موثوقة، أو قدرة فعالة على الاستثمار والتنمية.

أزمة المؤسسة ليست في الأموال… بل في المنظومة، فالمؤسسة تملك محافظ مالية ودائع، سندات، وفوق ذلك شبكة واسعة من الشركات لكن: المعلومات المنشورة حول الأداء قليلة وغير منتظمة، وخطط الاستثمار وإعادة الهيكلة غير معلنة بوضوح، والشركات التابعة تتجاوز قدرة الإدارة والمتابعة.

والسبب أنه عند تأسيس المؤسسة الليبية للاستثمار تم الالتفاف على الهدف الأساسي بأن تكون صندوقا سياديا وتحولت إلى صندوق استثماري عبر إضافة شركات حكومية استثمارية مثل شركة الاستثمارات الخارجية ومحفظة ليبيا أفريقيا و غيرها.

هذا الصندوق الذي أثقل منذ بدايته أصبح يدير بشكل مباشر وغير مباشر، شبكة واسعة من الشركات الاستثمارية في مناطق عديدة من العالم، وجزء معتبر من هذه الشركات متوقف أو خاسر أو بلا نموذج عمل واضح.

‎والآن تسعي الحكومة الليبية بجهد لرفع التجميد عن الأصول السائلة والاستثمارات المالية في السندات وأدوات الدين وبرغم اعتراض مجلس الأمن بسبب عدم وجود حكومة شرعية تحظى بقبول كافة الليبيين، ولذلك فإن إلغاء التجميد الدولي في وقت لاحق وهذا حتما سيكون مستقبلا، قد يعرّض الأصول السائلة لخطر الاستخدام الحكومي المفرط لدعم الإنفاق العام
‎بمعنى آخر: المشكلة ليست في قيمة الأصول… بل في آلية إدارتها عند رفع التجميد في ظل حالة عدم الاتزان بالمؤسسة، فالحكومة ستسعى لاستخدام هذا الاحتياطي الهام خصوصا إذا كانت هناك تحديات كبيرة على مستوى الإنفاق الحكومي لأسباب متعلقة باحتياجات التنمية والإنفاق الجاري، وقد تتعلق باستفحال العجز بأسباب تتعلق بإنتاج النفط و اسعاره العالمية. .
كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ والأهم: ما الذي يجب فعله قبل أن نفقد فرصة تصحيح المسار؟
أولًا: الإرث المعقد الذي شكّله التجميد الدولي
‎أدّى إدراج المؤسسة ضمن العقوبات الدولية منذ عام 2011 إلى تجميد جزء واسع من أصولها، خصوصًا الودائع والسندات، ما جعلها صندوقًا لا يستطيع أن يتصرف في أمواله بحرية ولا أن يعيد هيكلة محفظته بالشكل الطبيعي.وعلى الرغم من أهمية التجميد حينها لحماية الأموال، إلا أن آثاره امتدت بشكلٍ عميق وتسببت في : تآكل القيمة الحقيقية للأصول النقدية مع الزمن. و تعطّل برامج إعادة الهيكلة، و تراكم الشركات الخاسرة أو المتوقفة دون معالجة وفتح الباب للتجرؤ علي الاستثمارات الليبية في دول مضطربة و زاد من ممارسات الفساد حولها كما تشير بعض التقارير الرقابية .
‎ومع بدء النقاش الدولي حول تخفيف التجميد أو آليات استثناء جزئية، يبرز خطر جديد وخطير:
‎رفع التجميد دون إصلاح هيكلي سيؤدي إلى استخدام الأصول السائلة بسرعة لسد العجز الحكومي، وهو المسار الذي سيستنزف الثروة خلال فترة قصيرة.
ثانيًا: تشتت الأصول وغياب التصنيف الوظيفي
‎تملك المؤسسة عددًا ضخمًا من الشركات والمحافظ الاستثمارية، تقديرات داخلية تشير إلى وجود ما يقرب 500 شركة داخل وخارج ليبيا، بعضها كان جزءًا من استراتيجيات قديمة لم تعد مناسبة، وبعضها متوقف أو خاسر أو يفتقر إلى الحوكمة والإدارة المهنية.
‎هذا الوضع خلق أربع مشكلات بنيوية:
اولا مشكلة تعدد الشركات و تشتتها ، الأمر الذي أدى إلى صعوبة المتابعة والرقابة والتحليل وتدفق المعلومات وتطبيق إطار واضح وشفاف للحوكمة المؤسساتية برغم محاولات إدارة المؤسسة الترويج في أكثر من مناسبة لقيامهما بدور كبير في هذا الصدد.
ثانيا غياب أدوار واضحة لإدارات وأنظمة الاستثمار ، مما أدى إلى تعطل وبطء منظومة القرارات وأن تكون مبنية علي تقييم اداء غير واقعي ومرتبك.
ثالثا ضعف الإفصاح و الشفافية ، و الواقع أنها تكاد تكون منعدمة فلا يعرف علي سبيل التفصيل الاستثمارات و رأس مالها و لا يوجد تقييم للأداء منشور يمكن من التحليل و الفهم لواقع الاستثمارات ليس للعامة، ولكن حتى لمجلس الأمناء الذي يمثل الملاك لهذا الصندوق الاستثماري الحكومي.
رابعا تكلفة تشغيلية مرتفعة وعوائد محدودة ، يتسبب في نزيف صامت للقيمة سواء في الأدوات شبه السائلة و التي ربما تمكنت المؤسسة من إدارتها دون التصرف فيها بموجب ما سمحت به لجنة العقوبات و التي ما زالت الإفصاحات حولها غير متاحة أيضا، ولا بالأدوات الاستثمارية المتمثلة في الشركات الاستثمارية القائمة.
لذلك قد يبدو رفع أو تخفيف التجميد خطوة إيجابية ظاهريا ، لكنه في غياب الحوكمة الصحيحة سيكون فخًا ماليًا و خطر وتحدي كبير لدور الصندوق السيادي الليبي مستقبلا كداعمة لاستقرار الاقتصاد الوطني، فعند أول صدمة في سعر النفط، ستتجه الدولة بشكل طبيعي إلى الأصول السائلة لتغطية العجز.وهذا سيؤدي إلى استنزاف سريع للأرصدة المالية وينعكس في تدهور الاستقرار النقدي للاقتصاد الليبي برمته، وسوف يودي إلى بيع اضطراري لأصول وشركات بأسعار زهيدة و ينتهي ذلك بضياع الثروة السيادية للأجيال المقبلة بسبب أن الشركات التابعة للمؤسسة لا تولّد عوائد سريعة، فلن تستطيع تعويض الاستنزاف.

وبالتالي فإن المؤسسة الليبية للاستثمار لا تعمل اليوم كصندوق سيادي موحد، بل كتكتل شركات متناثر غير متناسق في الهدف أو الأفق الاستثماري.

طبعا الوضع الإداري و السياسي الليبي يلقي بظلاله حول المؤسسة و يرسخ من حالة الجمود الاستراتيجي والتنظيمي و يعطل أكثر من القدرة والفعالية الاستثمارية.

الحل ليس في “تحسين الإدارة” فقط؟
‎لأن المشكلة ليست إدارية بل هيكلية.
‎فالصناديق السيادية في العالم تنقسم وظيفيًا إلى نوعين:
1- صناديق الاستقرار المالي و هدفها الأساسي دعم الميزانية عند الصدمات الاقتصادية
2- صناديق تنمية الأصول الطويلة، وهدفها الأساسي الاستثمار طويل الأجل لتعظيم الثروة.

ولا يوجد صندوق واحد ناجح في العالم يجمع هذين الدورين معًا داخل وعاء واحد، بسبب أن الاستقرار يحتاج إلى سيولة وسرعة، والاستثمار يحتاج وقتًا واستدامة وصبرًا، و‎دمجهما داخل إدارة واحدة يؤدي إلى تناقض دائم في القرارات.

عليه، فإن الحل الوطني المطلوب يرتكز علي فصل وظيفي صارم، فالحل ليس إلغاء المؤسسة أو إعادة بنائها من الصفر بل إعادة تعريف أين تذهب السيولة وأين تُدار
الأصول طويلة الأجل؟

لذلك لحماية الثروة الوطنية بأرصدة المؤسسة وما قد يضاف لها لاحقا من فائض العوائد النفطية، يتطلب إعادة هيكلة واسعة للمؤسسة الليبية للاستثمار بحيث يكون لديها صندوقان مستقلان عن بعضهما تماما تحت إشراف مجلس الأمناء: الأول صندوق الاستقرار السيادي والثاني صندوق إدارة الأصول والاستثمارات.

أولا صندوق الاستقرار السيادي، ودوره حماية الميزانية عند الأزمات، لا تمويل النفقات الدائمة، ولا يملك شركات ولا ينفذ مشاريع، والسحب منه مقيد بقواعد تعتمد على سعر نفط مرجعي وسقف سنويً.

ثانيا صندوق إدارة الأصول والاستثمارات، ودوره إعادة تقييم الشركات، ووضع خطط تصحيح، ودمج، وبيع، أو إعادة تشغيل، وبناء عوائد طويلة الأجل مستقرة.

تشير التجارب الدولية إلى خطورة “الخلط” بين السيولة والاستثمار، فبعض الدول استخدمت احتياطياتها بشكل مفرط وعشوائي، فانتهت الثروة قبل أن يتعافى الاقتصاد، فنزويلا مثلا استخدمت أصول صندوق النفط لتمويل الإنفاق الحكومي اليومي، فاختفت الاحتياطيات وانهار الاقتصاد.

الجزائر (صندوق FRR): استخدم الصندوق لتعويض العجز بشكل متواصل دون ضوابط، فاستُنزف تمامًا بحلول 2017.

نيجيريا: استخدمت صندوق الاستقرار لسد النفقات بدل استخدامه عند الأزمات فقط، فانخفضت احتياطياتها في أقل من ثلاث سنوات.

وعليه إذا لم تُحمَ السيولة بقواعد صارمة، فإنها ستتبخر حتما، وهذا هو السيناريو الذي قد يحدث في ليبيا في ظل الهشاشة الاقتصادية الحالية، وإذا رُفع التجميد دون وجود إطار مناسب لفصل مهام الاستقرار النقدي عن مهام الاستثمار.

وفي المقابل… تجارب دولية نجحت في تعزيز الثروة الوطنية لأنها فصلت بين الصندوقين، فمثلا الكويت فصلت بوضوح بين صندوق الاحتياطي العام (للاحتياجات المالية قصيرة الأجل) وصندوق الأجيال القادمة (لا يُمسّ إلا وفق قواعد صارمة).

النرويج أيضا صندوقها السيادي الأكبر عالميًا لا يمول الحكومة مباشرة، بل يسمح بسحب سنوي محدود من العائد فقط، وليس من رأس المال.

وأيضا أبوظبي وقطر فصلتا بين الصناديق الاستثمارية التي تدير الشركات والصناديق التي تدير الأصول المالية السيادية.

وهذه التجارب بينت بما لا يدع مجال للشك أن هذه الدول قامت بالفصل بين الصندوق السيادي وصندوق إدارة الاستثمارات، وتحقق لها أمران، الأول أنه بات لديها استثمارات في شركات تعيش وتنمو باستقلالية، والثاني أن احتياطيها المالي بات محميًّا من الاستنزاف بموجب تدخل أو سوء استخدام

الدرس المستفاد أن هناك وظيفتين مختلفتين للاستثمارات العامة، فوظيفة الاستقرار شيء ووظيفة الاستثمار شيء آخر، ولا يمكن لمؤسسة واحدة أن تقوم بالوظيفتين معًا بنفس الآليات والقرارات.

 

سليمان سالم الشحومي
استاذ التمويل والاستثمار و مؤسس سوق المال الليبي

كُتب بواسطة Journalist

Exit mobile version