في مشهد لا يختلف كثيراً عن تكرار الأخطاء القديمة ذاتها بثوب جديد، أعلن محافظ مصرف ليبيا المركزي ناجيعيسى، ومعه مجلس إدارته، عن قرار فرض عمولات على عمليات سحب أموال المودعين من المصارف التجارية،وذلك ابتداءً من الغد. قرارٌ قدّمته إدارة المصرف كخطوة “إصلاحية” لضبط السوق ومكافحة الفساد، بينما هو فيالحقيقة مجرد حل وهمي لأزمة حقيقية، يعكس غياب أي رؤية علمية أو خطة اقتصادية مدروسة.
ففي بلد تعاني مصارفه أصلاً من نقص حاد في السيولة، فإن فرض عمولات إضافية على السحب النقدي لن يؤدي إلاإلى تسريع اختفاء ما تبقى من الأموال داخل المصارف. المواطن، الذي لم يعد يثق في النظام المصرفي، سيسارع إلىسحب مدخراته وتخزينها في البيوت، بعيداً عن القرارات الجائرة والمفاجآت التي لا تنتهي. وهكذا، بدل أن يسترجعالمصرف ثقة الناس، فإنه يدفعهم دفعاً نحو هجر المصارف.
ومع تقلص حجم السيولة داخل الجهاز المصرفي، سيُجبر المواطن مجدداً على التعامل بالشيكات كوسيلة بديلة. هذه العودة القسرية ستفتح الباب أمام موجة جديدة من ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية، وزيادة المضاربة،واتساع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق. في المقابل، الجهات التي زعم المحافظ أنه سيحاربها — منمضاربين وشبكات مصالح مالية — ستزداد قوة، وتستفيد من حالة الفوضى التي خلقتها قرارات المركزي، بينما يبقىالمواطن وحده من يدفع الثمن في كل مرة.
الأزمة الحقيقية ليست في كيفية سحب الأموال، بل في انعدام الثقة في القطاع المصرفي. معالجة أزمة السيولة لاتكون بالرسوم والعقوبات، بل بطمأنة المودعين، وضمان حقهم في الوصول إلى أموالهم متى شاؤوا، وخلق بيئة ماليةشفافة ومؤسساتية. لكن إدارة المركزي اختارت الطريق الأسهل: تحميل المواطن عبء فشلها المتراكم.
من الواضح أن هذه السياسات لا تستهدف الإصلاح بقدر ما تعكس ارتباكاً عميقاً، ومحاولات ترقيع مؤقتة لأزمةهيكلية أكبر. والنتيجة النهائية واضحة: لا سيولة، لا ثقة، ولا أفق واضح.
لقد أثبتت التجارب، محلياً ودولياً، أن القطاع المصرفي لا ينهض بالقرارات المفاجئة والجباية من المودعين، بلبإصلاحات هيكلية جذرية تبدأ من إعادة هيكلة المصارف، وتحريرها من نفوذ شبكات الفساد، ووضع سياسة نقديةواقعية تحمي قيمة الدينار وتدعم النشاط الاقتصادي. أما القرارات الحالية، فهي أشبه بمن يحاول إطفاء الناربالبنزين، وينتظر أن يصفق له الناس بعد أن احترقت بيوتهم.