قد يلاحظ الأصدقاء أنني توقفت منذ فترة عن تناول موضوع المحروقات، رغم أنّه يتصل اتصالًا وثيقًا بصميم عملي وخبرتي. والسبب أنني عرضت ما عندي من ملاحظات وآراء في هذه الصفحة، وفي مقابلات تلفزيونية متعددة على القنوات الليبية والدولية، كما أسهمت في نقاشات ومناظرات على منابر سياسية واقتصادية مختلفة.
ملخّص مساهماتي، لمن فاته ذلك، أنّ وجهة نظري تقوم على الإصلاح التدريجي للدعم، بحيث تتم موازنة ميزان استهلاك الطاقة بما لا يرهق المواطن ماليًا، ولا يمسّ الاقتصاد الوطني بالتباطؤ، ويسهم في خفض العجز في الإنفاق العام. وهذه الرؤية يشترك فيها مجتمع الاقتصاديين على المستوى العالمي، وتؤيد جوانب منها مؤسسات دولية موثوقة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك.
بطبيعة الحال، هناك اختلافات في المنهجية، لكن يوجد اتفاق حول جوهر الموضوع.
ككل الليبيين، أتضايق عند حدوث أزمة طاقة في البلاد، لكن لا حيلة في الأمر؛ فالمفاهيم السائدة لدى الكثيرين لا تراعي المنطق الرياضي السليم، فضلًا عن المنطق الاقتصادي. وانتشار حالة الإنكار، التي يغذّيها عدد من النخب، لا يؤدي فقط إلى اختلال التزويد الآمن والمنتظم للسوق المحلية، بل يجعلنا أمام ظاهرة تكاد تكون فريدة عالميًا؛ فهي لا تتكرر في أي دولة إلا بعد عقود طويلة، بينما تتكرر عندنا بوتيرة متوالية هندسية عجيبة.
العديد من الأصدقاء والمتابعين، الذين يعيشون حالة الإنكار، يبدون امتعاضًا من الأرقام الحقيقية التي أعرضها، ويسعون لإيجاد مبررات متعددة لإثبات أن أسباب الأزمات المتكررة في التزويد بالمحروقات تعود إلى التهريب أو إلى الدعم أو إلى انخفاض التكرير المحلي أو إلى سوء إدارة شركة البريقة وشركات التوزيع.
وقد نشر الصديق الإعلامي أحمد السنوسي إحصائيات عن استهلاك المحروقات خلال الفترة 2018-2024، وأشار إلى أن الاستهلاك ارتفع بمعدل 60%، وهو ما يفسر عجز البنزين الحالي. أنا أختلف مع الأرقام التي نشرها ومع نقطة محورية هي اعتباره سنة 2018 سنة أساس للمقارنة وهو أمر غير مقبول نظريا واحصائيا.
الأسئلة الجوهرية للوصول إلى الحقيقة:
1. ما المستوى المناسب للاستهلاك المحلي وفقًا لهياكل الاقتصاد الليبي؟
2. ما المستوى المناسب للاستهلاك المحلي وفقًا لهيكل نظام الطاقة المغذّي للاقتصاد من حيث النوع والكمية؟
3. ما سنة الأساس التي يجب اعتمادها للمقارنة؟
4. ما الدول المكافئة التي ينبغي اختيارها للمقارنة؟
شخصيًا، درست هذه الأسئلة، ولرفع الشبهة اعتمدت ما أمكن من البيانات الصادرة عن شركة البريقة لتسويق النفط والمؤسسة الوطنية للنفط.
النتائج (موضحة في الرسم المرفق):
1. بالرجوع إلى سنة 2010، نجد أنّ الاستهلاك المحلي من المحروقات السائلة بلغ 11.9 مليون طن.
2. تراجع الاستهلاك ابتداءً من سنة 2016 نتيجة إحلال الغاز الطبيعي محل الديزل، حيث بلغ معدل الإحلال 4 ملايين طن سنويًا.
3. لكن إنتاج الغاز انخفض تدريجيًا، ما أجبر على العودة إلى استهلاك الديزل، وكان الفارق – مثلًا بين 2017 و2024 – نحو 5 ملايين طن سنويًا.
4. أدى ذلك إلى عودة ارتفاع استهلاك المحروقات السائلة إلى مستويات أكثر بقليل من سنة 2010، بمعدل 12.6 مليون طن سنويا مع الأخذ في الاعتبار النمو الاقتصادي فالفرق يصل إلى أقل من مليون طن وهي كمية صغيرة بكل المقاييس الرياضية والمنطقية.
5. لا يمكن إغفال أثر انهيار الأداء الاقتصادي للدولة بنسبة سالبة تجاوزت 25% خلال الفترة 2011-2018 على الاستهلاك.
6. معدلات الاستهلاك في ليبيا لا تزال أدنى من معدلات استهلاك الطاقة في دول مشابهة، رغم صغر حجمها، مثل قطر والكويت، سواء على مستوى الاستهلاك المطلق أو الاستهلاك الفردي. أما المقارنة مع تونس فغير ذات جدوى، إذ يختلف هيكل نظام الطاقة جذريًا: تونس تعتمد على النقل الجماعي، وعلى الديزل في النقل، وعلى الغاز الطبيعي المستورد من الجزائر لتوليد الكهرباء.
7. هذا لا ينفي وجود تهريب، لكن يجب تقدير حجمه بمنطق واقعي. فليبيا تستورد المحروقات السائلة في سفن سعتها 30 ألف طن، ما يتطلب أسطولًا من ألف شاحنة للنقل والتوزيع، فضلًا عن التخزين، إذ لا يمكن تفريغ الشحنة في يوم واحد. وبالاستناد إلى البرمجة الخطية للكميات الموردة والمخزنة في خزانات البريقة، فإن نسبة التهريب لا يمكن أن تتجاوز 5% منطقيًا، وقد ترتفع إلى 7% في حال استخدام سفن صغيرة بسعة 7 آلاف طن، كما أشارت وكالة بلومبرغ. وهذا رقم صغير مثلا إذا تم مقارنته بنسب الفاقد الفني في توليد وتوزيع الكهرباء والذي يصل إلى معدل 40% من نسبة الوقود المغذي.
لكي نكون واقعيين مع أهلنا، ونؤدي مسؤوليتنا العلمية – وليس التنفيذية – يجب أن نقرّ بأن تكرار أزمات التزويد بالوقود يعود أساسًا إلى حالة الإنكار التي يُغذّيها الخطاب السياسي والإعلامي، وليس إلى قضية الدعم كما يحاول البعض تصويرها. فالمسألة ببساطة تتعلق بتأمين اللتر من البنزين أو الديزل، والكيلوغرام من غاز الطهي، وطن الكيروسين للمخابز، وطن الوقود للطائرات، ووقود شركة الكهرباء في الموعد المناسب للمستهلك المناسب، وتجنب صناعة الأزمات المتكررة. وأقولها بصوت مرتفع: لقد أصبحنا في هذا الشأن موضع سخرية لدى الشعوب.