in

طرابلس تتنفس: تراجع خيار الحرب ومآلات المرحلة المقبلة

رغم قرع طبول الحرب لأسابيع، ورغم حشد غرف العمليات وتسخين وسائل الإعلام بالتلويح بالعقاب والتوعد، يبدو أن العاصمة طرابلس قد نجت – ولو مؤقتًا – من جولة جديدة من العنف.

تراجع خيار الحرب، ونرجو أن يكون هذا التراجع نهائيًا، هو الحدث الأهم في المشهد الليبي خلال الأسابيع الماضية. هذا التراجع ليس وليد “الرشد” السياسي فجأة من قبل الحكومة، ولا نتيجة “نضج” مفاجئ من الأطراف المؤيدة لخيارها في إخضاع العاصمة بكافة أركانها، بل تقف خلفه مجموعة من الأسباب الموضوعية التي يجب تحليلها بوضوح وصدق.

التحشيد الإعلامي والعسكري.. ثم ماذا ؟

لم يكن ما جرى مجرد استعراض بسيط. فالسيد رئيس حكومة الوحدة الوطنية، دفع في اتجاه خيار الحرب بكل ما أوتي من أدوات. فُعّلت غرف العمليات ورُصفت البيانات النارية وتم تقديم الوعود للأطراف المسلحة بالإغراءات المعتادة من أموال وتعويضات وموطئ قدم في العاصمة. كل ميليشيا تطمح منذ سنوات لأن يكون لها مربع نفوذ في طرابلس وقد بدا أن الفرصة سانحة لكن الحرب لم تقع.

ما الذي أوقف الحرب ؟ الأسباب الخفية خلف المشهد

ببساطة لم يكن هناك استعداد حقيقي لدى الأطراف المسلحة لخوض حرب فعلية. نعم قبلت بعض التشكيلات الدخول إلى العاصمة لكنها قبلت بذلك وفق تصور محدد ، استعراض قوة لا أكثر ” فض المنازعات ” لا دخول في مواجهات دموية ، لم يكن هناك استعداد للموت من من أجل أي طرف سياسي ، فالجميع يدرك أن الحرب الحقيقية تعني خسارة الأموال والمناصب والحياة التي جُمعت في سنوات الصراع.
لقد تم إقناعهم بالذهاب إلى طرابلس ليكونوا جزءًا من لعبة التهويش وربما للحصول على نصيب من “الغنيمة” لا أكثر. وهذا يفسّر اقتصار المواجهات على مناوشات محدودة راح ضحيتها عناصر صغيرة لا تملك قرار الحرب ولا السلم ، وبهذا فإن الخاسر الاكبر هو رئيس الحكومة الذي كان سابقا يرفع شعار لا للحرب فقد تورط فيها وسقط شعاره الوحيد ولم ينجح في تسويق نفسه بأنه رجل الحزم إذا لزم الأمر بعد النشوة التي استمدها من إنهاء غنيوه في ظروف غامضة ، فبدأت أصوات معاونيه على استحياء على السوشال ميديا تروج أن ما يجري هو نوع من الحكمة والرشد وأن الردع أذعنوا للشروط والدفع بهذا للرأي العام.

منذ اتفاق جنيف كانت هناك فرصة حقيقية لإعادة تنظيم المشهد الأمني وإخراج المجموعات المسلحة من إطار الفوضى نحو أطر مؤسساتية واضحة لكن السلطة التنفيذية – ولأسباب تتعلق بالمصالح الضيقة – لم تضع هذا الملف ضمن أولوياتها. فبقيت العاصمة تحت رحمة التوازنات الميليشياوية وشهدت العاصمة تغولاً للمليشيات وسيطرتها على مفاصل الدولة بشكل غير مسبوق منذ 2011 ووصلت إلى أنها تنافس الحكومة ذاتها وهو سبب الخلاف مع جهاز دعم الاستقرار وكل المجموعات الأخرى بدرجات متفاوتة وهم جميعا يدركون ذلك جيدا، وهذا يفسر عدم رغبتهم في خوض أي حرب لصالح الدبيبة لأنهم يدركون أن الدور عليهم قادم.

ولهذا السبب فلا يمكن للحكومة التي تحالفت مع المليشيات وفقا للرشاوى وشراء الذمم وبعيدا عن مشروع وطني وبرنامج واضح لبناء المؤسسات الأمنية، أن تقرر بين عشية وضحاها بأن تتخلص من الجميع باستخدام مليشيات جهوية موالية ضد أخرى.
ماذا بعد تراجع الحرب؟ أسئلة المرحلة القادمة
إن تراجع خيار الحرب لا يعني أن الأمور باتت مستقرة. بل هو تراجع مؤقت بانتظار ما ستُفضي إليه التفاهمات القادمة. وهنا تُطرح عدة تساؤلات:
• هل ستقبل الحكومة بسيادة منقوصة على طرابلس ؟
حيث تظل حركتها محدودة في بعض المربعات، وتبقى قوى أخرى تتحكم فعليًا في الأمن والميدان.
• هل ستتخلى قوة الردع أو غيرها عن بعض مكاسبها من أجل التهدئة؟
وهل هناك قابلية لإعادة ترتيب توزيع النفوذ في العاصمة بعيدًا عن خيار السلاح؟
• هل ستُفتح طاولة أمنية وسياسية حقيقية تجمع الأطراف المتنفذة؟
⁠أم أن الدبيبة يدرك أن المطلوب هو بقاؤه ضعيفاً وتهيئة الظروف إلى حين تشكيل حكومة أخرى والتي باتت مطلب الجميع، ولذلك فهو يرى أن الحرب هي الوسيلة لخلط الأوراق.

الفرصة قائمة.. والتحدي مستمر

نرحب بتراجع خيار الحرب ونأمل أن يكون مقدمة لمرحلة من العقلانية السياسية. لكن هذا وحده لا يكفي. فغياب الحرب لا يعني وجود سلام ، فالواجب على الدبيبة اليوم هو طرح مبادرة شجاعة بدعوة معارضيه في الغرب نحو تسوية سياسية حقيقية تشمل كل الأطراف، وتُبنى على قواعد عادلة لا على توازنات الميليشيات.
ولكي لا يفهم حديثي على أنه تسجيل موقف سياسي فقط ضد الحكومة، فإنني أتمنى أن تبادر حكومة الوحدة الوطنية إلى تقديم مبادرة سياسية جادة تُقنع معارضيها وتفتح الباب أمام حوار حقيقي تتصدر من خلاله مشروع توحيد المنطقة الغربية التي تعاني من تمزق واضح وخروج واضح عن سيطرتها، صحيح أن بعض أطراف الصراع قد ترى في هذا التمزق فرصة لتعزيز نفوذها لكنه في الحقيقة ليس في صالح أحد، لا الحكومة ولا المنطقة الغربية ولا ليبيا ككل.
ورغم تعقيد المشهد لا تزال هناك فرصة لجمع الفرقاء في المنطقة الغربية على قاعدة مشروع وطني جامع تمهيدًا لتسوية شاملة فوق الطاولة مع المنطقة الشرقية. أما الحديث عن توحيد ليبيا في ظل هذا الشتات الداخلي، فسيبقى كلامًا معلقًا لا سند له، فالوحدة الوطنية تبدأ من الداخل ومن القدرة على خلق موقف موحد في الغرب الليبي لا يقوم على الولاءات الضيقة بل على رؤية وطنية واضحة.
وللتذكير- فإن الطرف المسيطر على المنطقة الشرقية والمتمثل في خليفة حفتر يراقب ما يحدث في طرابلس بانسجام تام دون أن يُكلّف نفسه أي ثمن سياسي أو ميداني، فكلما زاد تشتت المنطقة الغربية زادت فرصه، وفي النهاية يدرك الجميع أن تهيئة الظروف له بهذه الطريقة تعني تمهيد الطريق لعودة الحكم العسكري الشمولي.

وختاماً – فإن الحرب تأجلت ولكن السؤال الجوهري – من سيملأ الفراغ ؟ وهل نملك مشروعًا وطنيًا بديلاً عن “العنف المؤجل” ؟

ما رأيك ؟

0 نقاط
Upvote Downvote

كُتب بواسطة Juma Mohammed

الشرطة الزراعية بالجبل الأخضر تطلق حملة ميدانية لضبط المخالفات وحماية المنتجات الزراعية

أسوأ 10 مدن قابليّة للعيش عالميًا – 2025