في لحظة فارقة من التاريخ الليبي، وُلدت قناة “ليبيا لكل الأحرار” كمنصة حرة، خارجة من رحم ثورة 17 فبراير، تحمل صرخة المظلومين، وتنقل ميدانيًا نضال الثوار ضد سلطة القمع والقهر. كانت تبث من الدوحة لكنها كانت تسكن قلوب الليبيين الثائرين لا تهادن لا تجامل ، صوتها كان جزءًا من معركة التحرير وسلاحها الكلمة والصورة في زمن الرصاص والدخان.
لكن ما حدث اخيرا بعد طول أمد الازمة بدأت تلك القناة تفقد تدريجيًا بوصلتها وتدخل مرحلة ضبابية من التماهي مع السلطة حتى انتهى بها الحال اليوم أشبه بمنصة إعلام رسمي غير معلن تتلقف أخبار حكومة الدبيبة وتعيد صياغتها كمنجزات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .
“ليبيا لكل الأحرار” تلك القناة التي وُلدت من رحم الشارع باتت اليوم أشبه بنافذة فوقية تقرأ الواقع بعين واحدة وتغض الطرف عن الفساد والفوضى وسوء الإدارة، وتكتفي بتصفيق خافت كلما خرج الدبيبة في مؤتمر أو أعلن عن صرف منحة أو وعد بشيء من وعوده الدعائية التي تطوى مع الزمن ولم يعد يصدقها احد ، قناة كانت تعرّي الأنظمة صارت اليوم تغض الطرف عن مصائب الحكومة وتخدر الرأي العام بأخبار سطحية ودعاية سمجة موجهة حتى بات المواطن البسيط الذي كان يثق بها يتندر على مضمونها ويستهزئ بما تبثه.
والحق يُقال إنها رغم هذا التحول ما زالت محافظة على حدّتها تجاه حلم حفتر بالحكم العسكري وهذا ما يبقي فيها شيئًا من بقايا مشروعها الأصلي. لكنها – بالمقابل – تخفت فجأة حين يتعلق الأمر بردّة الثورة داخل المنطقة الغربية وسيطرة ” الخضر”، ولا تكاد ترفع صوتها حيال عبث المليشيات أو فساد الحكومات ونهب الأموال أو قمع الحريات في طرابلس وما حولها.
هذا التحوّل بحسب بعض المحللين تزامن مع انشغال الدوحة بملفات أكثر سخونة، خاصة في غزة وبعض القضايا الحساسة داخل البيت الخليجي ، ما أدى إلى شبه انسحاب من الملف الليبي ، هذا الفراغ أتاح مساحة واسعة لمدير القناة في توجيه خطها التحريري بما يتماشى مع مصالحه الشخصية فتورطت القناة في تبني خطاب كراهية تجاه الشرق الليبي ومكوناته عبر استضافة شخصيات تتبنّى هذا الخطاب، وتكرار نعوت دخيلة على القاموس المهني والأخلاقي للعمل الصحفي. وربما كان تراجع المالك والداعم في الدوحة مبررًا بانشغاله بقضايا أعلى أولوية، لكن غياب الرقابة التحريرية جعله يظن أن القناة ما تزال تخدم قضايا الثورة، بينما هي في الحقيقة ابتعدت عن روحها، ولم تعد تراعي المصالح الوطنية.
وما يزيد الألم أن هذه القناة لا تزال تحتفظ باسمها “لكل الأحرار”، بينما تخذل يوميًا أولئك الذين ناضلوا، وكتبوا بالدم حلم ليبيا الجديدة. إنها تغلق الستار عن كل الازمات أزمات الكهرباء، والصحة، وغياب الأمن، وتفتحه فقط حين يقرر رئيس الحكومة تصوير نفسه وسط أطفال المدارس أو بجوار رافعة مشاريع وهمية.
ليست المسألة إعلامية فقط بل أخلاقية وتاريخية. فهذه القناة ليست ملكًا لمجموعة موظفين أو لجهة ممولة بل هي ذاكرة وطنية وحق معنوي لكل من شارك في ثورة فبراير، وحمل الكاميرا قبل السلاح وصوّر بكاميرا هاتفه لحظة سقوط باب العزيزية أو إعلان تحرير طرابلس.
إن استعادة “ليبيا للأحرار” كمؤسسة وطنية تبدأ أولًا بإعادة النظر في إدارتها وخطها التحريري بعيدا عن صريرات الذبيبة، وتوسيع قاعدتها التحريرية لتشمل أصوات الثورة والمجتمع المدني، لا أصوات الوزراء والمستشارين. كما نرجو أن تصل هذه الرسالة بوضوح إلى المعنيين بهذا الملف في الدوحة لأن استمرار القناة في هذا المسار المنحرف قد يدفع المواطن الليبي لتحميلهم المسؤولية المباشرة عن توجهاتها ومخرجاتها مما يقتضي التدخل العاجل والتوجيه الجاد. كما أن على القناة أن تستعيد شجاعتها، لا أن تتحول إلى ناطق غير رسمي باسم الحكومة، تحاور وزراءها وتخاطبهم برفق وكأنهم في نزهة، بينما البلاد تغلي تحت خط الفقر والاحتقان.
قناة “ليبيا لكل الأحرار” إن لم تُراجع ذاتها، فستكون مجرد صفحة أخرى في سجل المؤسسات التي خانت ذاكرة فبراير، وتخلت عن الناس الذين صنعوا لها مكانتها. أما من لا يزالون يؤمنون بحلم الثورة، فيجب أن يطالبوا بها، ويسترجعوا منبرهم، لا كقناة تملأ الفراغ الإعلامي، بل كصوت يليق بتاريخ دمٍ لم يجف بعد.
in مقالات
من صوت الثورة إلى صوت السلطة
