في عمق الجغرافيا الليبية حيث تتمدد الصحراء وتختزن الأرض كنوزًا من النفط والغاز وثروات طبيعية لا تُحصى،يتردد صدى أنين خافت لإقليم بأكمله إقليم بدا وكأنه يعيش على هامش وطن لا يسمعه، كان من المفترض لهذهالثروات أن تكون قاطرة للاقتصاد الوطنيلكن الجنوب لم يكن يومًا سوى رقم مهمل في سجلات الدولة وعبء ثقيلفي موازين السياسة.
تاريخ من التهميش
لعقود طويلة تعايش الجنوب مع التهميش كقدر محتوم، وكأن قدره أن يبقى في الظل، ومع انهيار الدولة المركزية لميجد الجنوب طريقه نحو البناء والتعافي بل تحول إلى ساحة مفتوحة للنفوذ وميدان خلفي لصراعات لا ناقة له فيهاولا جمل، فلقد استدرجت مكوناته الاجتماعية وقبائله إلى أتون هذه الصراعات حيث سعى كل طرف في الشمال إلىمد يده عبر حلفاء محليين في محاولة لكسب جولة مؤقتة في معركة سلطوية طويلة دفع ثمنها أبناء الجنوب منأمنهم واستقرارهم ومن أحلامهم في غد أفضل.
معاناة موزعة على امتداد ستة وعشرين بلدية تمثل روح الإقليم وامتداده الاجتماعي والجغرافي من سبها إلى مرزقومن غات إلى وادي عتبة حتى القطرون، كلها بلديات تُركت تواجه مصيرها وحدها كل بلدية منها تروي قصة منالحرمان من الانقطاع من الغياب المتكرر للدولة ومن الشعور المزمن بأن فزان ليست في حسابات من يحكم.
التدخل الخارجي بوابة للفوضى
وما يزيد الطين بلة أن الجنوب لم يعد مجرد ضحية للإهمال الداخلي المزمن بل غدا هدفًا مكشوفًا لتنافس القوىالخارجية، ولم يكن هذا التدخل وليد الصدفة بل جاء نتيجة مباشرة للفراغ الذي خلفه غياب الدولة، ولقد تحولالجنوب إلى بوابة استراتيجية للتغلغل في عمق الساحل والصحراء، ومسرح جديد للصراع الجيوسياسي المحتدم،صراع لا يجد فيه صوت الناس مكانًا.
وجدت مراكز النفوذ الأجنبية في هذا الفراغ بيئة خصبة للتحرك وكلما تعمقت الفوضى اتسعت فرصها للعبثبمقدرات الإقليم.
جريمة سياسية مكتملة الأركان
إن ما يحدث في الجنوب ليس مجرد إهمال إداري بل هو جريمة سياسية مكتملة الأركان، جريمة صامتة اشترك فيارتكابها كل من تجاهل وكل من تواطأ وكل من صمت عن الظلم البين، وكل من اعتلى مقعد المسؤولية ولم يحملالجنوب أمانة في عنقه، جريمة ارتُكبت باسم السيادة بينما تُعامل فزان كأنها عبء ثقيل على الجسد الوطني، وباسمالوحدة بينما يُقصى الجنوب عمدًا من معادلات القرار وباسم العدالة بينما تُوزع الثروة الوطنية بميزان ظالم لا يرىإلا مصالح فئة دون أخرى.
إمكانات هائلة ومستقبل واعد ينتظر
لكن الجنوب ليس أرضًا قاحلة أو ميتة بل هو خزان هائل من الإمكانات الكامنة، ففيه تكمن ثروات النفط والغاز،ويتمتع بموقع استراتيجي فريد وموارد طبيعية يمكنها أن تُغير وجه ليبيا بالكامل، ولو أن إرادة سياسية حقيقيةتبلورت لكان الجنوب ركيزة أساسية للاستقرار الوطني لا عبئًا عليه.
كان يمكن أن يكون منطلقًا للتنمية الشاملة ونقطة انطلاق للتكامل الإقليمي مع دول الجوار، وكان من الممكن أنيُعاد دمجه في جسد الدولة الليبية بروح جديدة من الشراكة والعدالة.
رؤية وطنية شاملة السبيل الوحيد
إن ما يحتاجه الجنوب اليوم ليس مجرد ميزانيات تُصرف أو وعود تُطلق بل رؤية وطنية شاملة وعميقة، يحتاج إلىوجود حقيقي للدولة، وجود يعيد هيبتها ويُرسخ سيادتها يحتاج إلى مشروع تنموي مستدام يعيد بناء الثقةالمفقودة بين المواطن ومؤسسات الحكم، ويحتاج إلى أمن محلي يُبنى بسواعد أبنائه وإلى مصالحة وطنية حقيقيةبين كافة مكوناته الاجتماعية، ويحتاج إلى من يصدق معه القول والفعل لا من يستخدمه كورقة تفاوضية في صراعاتلا تنتهي، ويحتاج إلى من يراه قلبًا نابضًا للوطن لا مجرد طرف بعيد أو منسي.
مسؤولية وطنية جامعة
إن قضية الجنوب اليوم ليست مسؤولية أهل الجنوب وحدهم، بل مسؤولية وطنية جامعة تقع على عاتق كل منيطمح لنهضة ليبيا واستقرارها، فلا يمكن لدولة أن تقوم وجزء أصيل منها يُترك للفراغ والعبث، ولا يمكن أن يتحققالأمن الشامل وهناك رقعة واسعة من البلاد تُدار من خارج الحدود، ولا يمكن أن نبني سلامًا مستدامًا وهناك شعببأكمله يشعر بالنسيان والتهميش.
إننا اليوم أمام فرصة أخيرة لإعادة النظر لإعادة الاعتبار ولإعادة رسم العلاقة مع هذا الإقليم الحيوي، فإما أن يكونالجنوب رافعة للاستقرار والازدهار أو أن يبقى جرحًا نازفًا في جسد وطن منهك يهدد بتقويض كل محاولات البناء.