في خضم ما تعيشه ليبيا من استقطاب سياسي وانقسام حاد، يخرج علينا بين الحين والآخر فضيلة المفتي الدكتور الصادق الغرياني بتصريحات متكررة يُحمّل فيها اتفاق الصخيرات مسؤولية ما يحدث في البلاد من انقسام واضطراب، في محاولة لإلصاق كل إخفاقات المرحلة السياسية بذلك الاتفاق، دون إشارة إلى السياق الذي أُبرم فيه، أو الاعتراف بما تحقق في أعقابه من مكاسب وطنية.
إن تحميل اتفاق الصخيرات المسؤولية عن الواقع السياسي الراهن يُعد نوعًا من التجني على الحقيقة، وتسطيحًا مخلًا للأحداث. فذلك يعكس عجزًا عن قراءة المشهد وتحليله بشكل موضوعي. هذا العجز يدفع دائماً بالمفتي وتياره إلى البحث عن شمّاعة جاهزة يعلّق عليها كل الإخفاقات.فيحيل إليها، تعسفًا، كل أوجه القصور والفشل.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى بعض تفسيرات تيار دار الإفتاء كمثال على هذا النمط من التفكير، حيث تُختزل، عندهم، أزمة ليبيا المركبّة، في اتفاق الصخيرات!!!، وتُساق الاتهامات بشكل تعسفي بعيدًا عن التحليل العميق. هذا النهج لا يعكس سوى عجز عن قراءة الواقع السياسي بما يستحقه من جدية وتفكيك موضوعي، وعن تقديم أي حلول سياسية أخرى، ويُعدُّ قصورًا في القدرة على تفكيك الأزمة السياسية المركبة، مما يدفع إلى الاكتفاء بتفسير سطحي يركن إلى تحميل اتفاق الصخيرات كل المسؤولية. وهذا، في جوهره، خطأ واضح وجليّ.
وحديث المفتي عن أن اعتراضه على اتفاق الصخيرات هو بسبب الرعاية الأممية له حيث كان بتيسير واشراف من بعثة الأمم المتحدة؛ فهذا مردود عليه.
حيث أن المفتي رفض، مع بعثة الأمم المتحدة، التسوية الليبية-الليبية، عندما تم التوافق في مارس 2022 بين مجلس النواب، وعدد كبير من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، على تشكيل حكومة باشاغا ومنحت الثقة من قِبل مجلس النوّاب، فالمجتمع الدولي رفض هذه الحكومة لأنها لم تأتِ عبر مسار أممي، بينما رفضها المفتي لأسباب تتعلق بموقفه من الشرق الليبي.
المفارقة أن من يدّعي رفض التدخل الأجنبي، وقف ضد محاولة داخلية جادة لتسوية وطنية بين الفرقاء الليبيين، فقط لأنها شملت الطرف الممثل لشرق البلاد، الذي يمثل جزءًا أصيلًا من ليبيا. ولا يمكن تجاهل أو إنكار أن بعض المكونات السياسية والعسكرية في الشرق الليبي، وعلى رأسها قوات عملية الكرامة، انخرطت في مشروع عسكري رُوِّج له على أنه لمحاربة الإرهاب، خاصة بعد اختراق جماعات متطرفة مثل تنظيم الدولة لبعض مناطق الشرق في السنوات بين 2014 و 2017، وقبل ذلك مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، كريستوفر ستيفنز، في 11 سبتمبر 2012 خلال هجوم على القنصلية الأمريكية في مدينة بنغازي.
هذا الواقع خلق حالة من القلق في المنطقة الشرقية، ما أعطى غطاءً إجتماعياً وسياسيًا للتحركات عسكرية هناك.
فالتيار المتضامن، سياسي و عسكري، المسيطر على الشرق الليبي، وإن اختلفت معه، يبقى جزءًا من الوطن لا يمكن تجاوزه أو استبعاده من أي حل سياسي.
وهنا يُطرح السؤال بوضوح: هل موقف المفتي نابع من حرص على السيادة الوطنية، أم من رفض مبطن لإشراك من هم في الشرق الليبي في معادلة الحكم؟ وإذا لم تكن هناك نية للتسوية مع الفرقاء، فهل البديل هو الحرب أو التقسيم؟
أمّا الموقف الدولي فقد عبّر عنه، بوضوح، المبعوث الأمريكي، جونثان واينر، فترة الاتفاق السياسي، في معرض رده على مخاوف فريق المؤتمر الوطني واتهامهم لممثلي المجتمع الدولي بأنهم يدعمون فرض الحكم العسكري، حيث قال: “نحن لا نسعى لفرض حكم عسكري في ليبيا بل نريد أن يبقى حفتر في شرق البلاد لمكافحة الإرهاب حتى لا يُسيطر على شرق البلاد كما سيطر على غربها”.
فالاتفاق السياسي حاول أن يضع إطارًا يضبط عمل المؤسسة العسكرية ويخضعها للسلطة المدنية، وهو ما لم يتحقق بسبب رفض سلطات الأمر الواقع في الشرق للاتفاق السياسي، وكذلك ضعف حكومة الوفاق في طرابلس، الذي أحد أهم أسبابها رفض المفتي وتياره للاتفاق السياسي.
والأدهى من ذلك أن البعض، ومنهم الدكتور الصادق الغرياني، يغمضون أعينهم عن الفوضى الأمنية التي استشرت في مناطق نفوذهم خلال تلك الفترة، ويتناسون أن التشكيلات المسلحة كانت تبسط سلطتها بقوة السلاح، وأن غض الطرف عن وجود بعض المجموعات المتطرفة، أسهم في توسعها وتهديدها للدولة والمجتمع، كما حدث في مدينة سرت.
فليبيا، قبل اتفاق الصخيرات (الذي وُقّع في 17 ديسمبر 2015) كانت تشهد تمزقًا خطيرًا وتهديدًا وجوديًا.
حيث كان الوضع كالآتي:
1. انقسام سياسي حاد بين سلطتين تنفيذيتين وتشريعيتين:
• حكومة الإنقاذ الوطني في طرابلس المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام.
• الحكومة المؤقتة في البيضاء المنبثقة عن مجلس النواب بطبرق.
بسبب سحب الاعتراف الدولي من المؤتمر الوطني العام وحكومته فور انتخاب مجلس النواب.
2. ازدواجية المؤسسات:
• وجود مصرفين مركزيين، وهيئتين للرقابة، وديوانين للمحاسبة، ومؤسسات سيادية متنازعة الشرعية.
• ارتباك إداري واقتصادي بسبب غياب سلطة موحدة.
3. صراع عسكري متصاعد:
• اندلاع مواجهات مسلحة في طرابلس (عملية فجر ليبيا) وفي شرق البلاد (عملية الكرامة).
• انتشار تشكيلات مسلحة تسيطر على مفاصل المدن، والجهات العامّة في العاصمة.
4. غياب الأمن وتدهور الخدمات:
• تردي الأوضاع الأمنية وارتفاع معدلات الجريمة والخطف.
• انقطاع الكهرباء ونقص السيولة والوقود وتدهور الخدمات الصحية.
5. تنامي خطر الإرهاب:
• تمدد تنظيم “داعش” خاصة في سرت.
• ضعف التنسيق بين الأطراف الليبية لمحاربته.
6. تدخلات إقليمية ودولية:
• دعم خارجي متبادل للأطراف المتنازعة.
• دخول ليبيا في صراع إقليمي غير مباشر بين محاور دولية متنافسة.
7. انسداد سياسي ودستوري:
• بسبب فشل الاطراف الليبية في التوصل إلى حل سياسي.
• تعثر المسار الدستوري وغياب خارطة طريق جامعة لبناء الدولة.
8. نزوح داخلي ومعاناة إنسانية:
• تهجير آلاف العائلات من مدن النزاع.
• ازدياد أعداد اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين.
9. غياب الثقة بين الأطراف:
• تحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية الفشل والانقسام.
• تعمق الهوة بين الشرق والغرب على المستويين السياسي والاجتماعي، وانتشار خطاب الكراهية.
10. دعوات أممية للتدخل:
• مطالبة الأمم المتحدة بتدخل عاجل لتوحيد السلطة.
• تعيين مبعوثين دوليين جدد وتكثيف جهود الوساطة السياسية.
لهذه الأسباب وفي لحظة مفصلية، لم يكن أمام أغلبية في مجلس النوّاب وأخرى في المؤتمر الوطني العام ومجموعة من البلديات والأحزاب السياسية، سوى البحث عن مخرج سلمي يحفظ ما تبقى من الدولة، ويمنع سقوطها في براثن الإرهاب أو العسكرة.
ومن هنا، جاء اتفاق الصخيرات كمبادرة ليبية أممية، توافقت عليه أطراف متعددة، وكان هدفه الأساسي توحيد المؤسسات، وخلق سلطة تنفيذية جامعة، تُنهي الانقسام، وتحمي الدولة من السقوط، وبالفعل، فقد تحقق من خلال هذا الاتفاق عدة أمور:
أولاً: إنتهت سيطرة تنظيم داعش على مدينة سرت، بعد أن وُلدت سلطة شرعية قادرة على تنسيق الحراك المحلي والدعم الدولي، وإعادة تشكيل بنية أمنية تساند الجهود العسكرية الليبية في دحر التنظيم.
ثانيًا: وقف مشروع العسكرة.
الاتفاق السياسي أرسى مرجعية سياسية وطنية وأعاد تأكيد أن الحكم في ليبيا لا يكون إلا عبر توافق سياسي ودستور جامع، لا عبر فوهات البنادق.
ثالثاً: وقفت الحرب والقصف بالطيران الذي كان يطال المنطقة الغربية من طرف القوة العسكرية في الشرق.
رابعاً: عاد التمثيل الدبلوماسي والسياسي والاعتراف الدولي إلى العاصمة #طرابلس.
فالحقيقة هي أن اتفاق الصخيرات وقف سدًّا منيعًا ضد مشروعين خطرين: مشروع الاستبداد العسكري، ومشروع الحكم الديني المؤدلج. وقلنا بوضوح إن لا مكان لحكم فرد، ولا لحكم جماعة، وإن الدولة لا تُبنى إلا على الدستور والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، لا فتاوى التحريض ولا فوهات البنادق.
تحميل اتفاق الصخيرات مسؤولية ما نعيشه اليوم فيه تجنٍّ على الحقيقة، وتضليل للرأي العام، فلو التزم الجميع بما نُص عليه في الاتفاق، وسعوا، بصدق، إلى استكمال المسار الدستوري وبناء مؤسسات الدولة، لكانت ليبيا اليوم في حال أفضل.
أما من عرقلوا الاتفاق، وعملوا على إفشاله، في غرب البلاد وشرقها، فهم من يجب أن يُسألوا عن إستمرار حالة الانقسام، لا من سعوا إلى رأب الصدع.
ختاماً: ليبيا لا تحتاج إلى مزيد من الخطاب التحريضي أو محاولات التخوين، بل تحتاج إلى شجاعة في قول الحقيقة، وإخلاص في دعم مشروع قيام الدولة.