تفاعل واسع أثاره قرار النيابة العامة حبس عشرة مسؤولين دفعة واحدة، احتياطياً على ذمة التحقيق، في الناقلين الجويين المملوكين للدولة، شركتي الخطوط الأفريقية والخطوط الليبية، بعد اتهامهم “بمخالفة نظم سلامة الطيران المدني، وتعمد تسيير رحلات جوية بطائرات لا تتوافر على شروط ومعايير السلامة، مما عرض حياة الركاب والمحيط للخطر في رحلات عدة”.
وظهر تحرك النيابة العامة في ما يشبه حملة قضائية واسعة، تحركت فيها الدعوى العمومية دون انتظار شكوى ولا تختص بحادثة معينة، بل امتدت للتحقيق في كل “الـحوادث المرتبطة بتشغيل الطائرات، وغيرها من الوقائع المؤثرة على سلامة النقل الجوي”.
وخلص التحقيق إلى “أن مؤديات حوادث الطائرات تمثلت في إهمال إجراء عمليات الفحص في وقت استحقاقها.. وكذلك تعمد إبدال قطع غيار لا تتوافق مع المواصفات المعتمدة” وهو ما يقترب من جناية “الشروع في القتل” بحسب قراءات قانونية للقضية.
عطل فني بسيط
وتكررت في السنوات الأخيرة حوادث أدت عشرات المرات إلى منع طائرات الشركتين من الإقلاع في وقتها المحدد، أو أجبرتها على العودة بعد دقائق من الإقلاع، أو الهبوط الاضطراري في مطار آخر في منتصف الرحلة، وفي غالب الأحيان لم تقدم إدارتا الشركتين معلومات وافية عن الأسباب، وكانت تكتفي ببيان مقتضب يتحدث عن “عطل فني بسيط، معتاد في حركة الطيران في كل الشركات العالمية” حسب وصفها، لكن الخبراء أحيانا ومسؤولين سابقين أو نقابيين في أحيان أخرى، تحدثوا عن مشاكل فنية كبيرة أدت لتلك الأعطال، وتسببت في انفجار إطارات أو توقف محرك أو تآكل قطع غيار، ويجمع بينها كلها “نقص الصيانة والإصلاحات اللازمة وعدم تغيير قطع الغيار المناسبة” وهو ما أثبته تحقيق النيابة العامة.
إرث ثقيل
وانتهت “الحملة القضائية” الجديدة، حتى الآن، إلى استجواب وحبس مسؤولي الصف الأول في شركتي الافريقية والليبية، ومنهم مديرا الشركتين، ومسؤولو استمرارية الصلاحية الجوية، والشؤون الفنية، والسلامة الجوية، ومراقبة الامتثال، لكنها أثارت في الوقت نفسه، تساؤلات جدية: هل هذا كاف لإصلاح الضرر الحاصل؟ فالجميع يعرف أن انهيار منظومة السلامة والأمن في الشركتين يرتبط بالحروب والانقسامات السياسية المتواصلة منذ 14 سنة، فضلا عن سوء التسيير الموروث من فترة ما قبل 2011، وتسبب في خروج أغلب الأسطول الجوي للشركتين عن الخدمة، وتراكم الديون، والتوقف عن دفع مرتبات العاملين لعدة سنوات.
سوء التسيير
وبحسب هيئة الرقابة الإدارية، فإن الخطوط الليبية لم تعد قادرة على تشغيل سوى 3 طائرات من أصل 24 كانت تمتلكها، والباقي دمر في حربي 2014 و 2019، بينما تجاوزت ديونها 1 مليار و 200 مليون دينار، وتآكل رأسمالها، ولم يختلف هدا عن مصير الخطوط الأفريقية، التي فقدت نصف أسطولها بعدما كان يناهز 13، ورغم كل هذا استمرت الشركتان في التوظيف المفرط حتى تجاوز عدد العاملين فيهما الـ6 آلاف، بما يفوق بكثير قدراتهما المالية والتشغيلية.
أين دور الحكومة؟
ويبرز هنا الدور الذي كان يجب ان تلعبه الحكومة للتخفيف من الأزمة وتصحيح مسار الشركتين، سواء من خلال تجديد الأسطول أو على الأقل تعويض الشركتين ولو جزئيا على خسائرهما، ثم وضعهما على سكة الإدارة الناجعة للاحتفاظ بحصتهما في السوق بعدما بدأت الشركات الخاصة تقضمها وتزيح الناقلين الجوين الحكوميين من الساحة، حتى لم يكد يبقى لهما سوى بضعة خطوط ورحلات الحج والعمرة، كما غابت الحكومة عن وقف النزيف المستمر في موارد الشركتين القليلة أصلا، بالتوظيف العشوائي والفساد المالي والإداري، بحسب تقرير هيئة الرقابة الإدارية.
أين مصلحة الطيران؟
وحتى في جانب المسؤولية القانونية عن إهمال الصيانة ومخالفة معايير الأمن والسلامة، تتحمل الحكومة عبر مصلحة الطيران المدني نصيبا مهما منها، باعتبارها المسؤول الأولى على مراقبة عمل شركات النقل الجوي، والسهر على التزامها بمقاييس السلامة والأمن، والتدخل عند الضرورة لمعاقبتها بطرق منها سحب رخص العمل منها، حتى قبل أن يصل الأمر لتحريك دعوى عمومية من النائب العام.