in

الانفلات القيمي في ليبيا: من يوقف الانحدار؟

تكشف الأخبار المتداولة عبر منصات مديريات الأمن والمؤسسات ذات الصلة عن تصاعد خطير في السلوكيات المنحرفة التي تهدد بنية المجتمع الليبي، من تفشي ظواهر التسول والسحر والشعوذة، إلى انتشار الأفعال غير الأخلاقية وتعاطي الممنوعات، وصولًا إلى جرائم سرقة الأقارب وقتل الوالدين، حيث لم تعد هذه الظواهر مجرد حالات فردية معزولة، بل أصبحت تهديدًا حقيقيًا للأمن الاجتماعي والنسيج المجتمعي ذاته، ما يعكس أزمة متجذرة تعصف بالبنية الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، ممتدة جذورها إلى انهيار ركائز المجتمع وضعف مؤسسات الدولة، مما يتطلب تحركًا عاجلًا يستند إلى حلول جذرية لمعالجة هذه التحديات بفعالية.

إن الواقع الراهن يكشف بوضوح عن غياب المنظومة الاجتماعية المتماسكة القادرة على التصدي لهذه التحديات، فالشباب، وهم الشريحة الأكبر في المجتمع الليبي، يعانون من إحباط متزايد وسط انعدام الفرص واستغلالهم وقودًا للصراعات، إضافةً إلى الغموض الذي يحيط بمستقبلهم، وهذا الواقع المظلم يتزامن مع تراجع دور الأسر والمدارس في التربية والتوجيه، وغياب التأثير الإيجابي للمنابر الدينية في تهذيب السلوك وتحصين المجتمع، لذلك، أصبح من الضروري تبني رؤية وطنية شاملة تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية وتدعو إلى إشراك جميع أطياف المجتمع في مواجهة هذه الظواهر، وصولًا إلى بناء مجتمع أكثر تماسكًا وقوة.

من هذا المنطلق، يتحتم على خبراء الاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد تقديم رؤى تشخيصية معمقة للأسباب الحقيقية لهذه الظواهر، بما يتيح صياغة سياسات عملية تعالج الأسباب الجذرية مثل ضعف الوازع الديني، وانتشار الفقر، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة حالات الطلاق والتفكك الأسري، وتراجع العدالة الاجتماعية، فضلًا عن غياب برامج التوعية والإرشاد، على أن تكون هذه السياسات مدعومة ببرامج وقائية تستثمر طاقات الشباب في مسارات إيجابية، وتعزز من مشاركتهم الفاعلة في بناء مستقبل ليبيا.

تلعب المنابر الدينية دورًا محوريًا لا يمكن تجاهله في هذا السياق، فهي قادرة على استثمار خطب الجمعة والدروس الدينية كمنصات توجيهية نحو القيم والسلوكيات الإيجابية، وتحفيز الشباب والأسر على تبني القيم الأخلاقية التي تساهم في تعزيز تماسك المجتمع، بالتوازي مع ذلك، يبرز الإعلام كلاعب رئيسي في هذه المواجهة، إذ يمكنه تسليط الضوء على خطورة هذه الظواهر وقيادة حملات توعوية عبر البرامج الحوارية والأفلام الوثائقية والمبادرات التثقيفية،
وكشف الممارسات والسلوكيات التي تهدد المنظومة القيمية، ما يدعم جهود الإصلاح ويكرس خطابًا يعيد الاعتبار للقيم الأصيلة ومكارم الأخلاق.

إلى جانب الإعلام، تملك الهيئات الاجتماعية، بما في ذلك المؤسسات التعليمية ومنظمات المجتمع المدني، القدرة على بناء جسور تواصل فعالة بين الدولة والمجتمع، فهي قادرة على إطلاق مبادرات وطنية لرفع وعي الشباب بمخاطر الانحراف، وتشجيعهم على استثمار طاقاتهم في مشاريع هادفة، إضافة إلى دعم الأسر لإعادة إحياء دورها التربوي، ومع ذلك، فإن التصدي لهذه الأزمة يتطلب شراكة شاملة بين الدولة والمجتمع، فبينما تعد الجهود الأمنية ضرورية، فإنها لن تكون كافية ما لم يتم دعمها بمبادرات مجتمعية مدروسة ومدعومة من مؤسسات الدولة لضمان استمراريتها، من هنا، تبرز الحاجة إلى تشكيل لجان وطنية تضم خبراء ومؤسسات اجتماعية ودينية وإعلامية لصياغة خطة استراتيجية متكاملة تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية لهذه الأزمة وتقديم حلول واقعية ومستدامة.

يتوقف مستقبل ليبيا على استثمار واعٍ في الإنسان، واستنهاض طاقات الشباب كشريك أساسي في بناء دولة قوية ومستقرة، حيث تمتلك وسائل الإعلام والمنابر الدينية، إلى جانب مؤسسات المجتمع الأخرى، مفاتيح إعادة توجيه المجتمع نحو العدالة والتماسك، ورغم جسامة التحديات، تبقى ليبيا قادرة على تجاوز أزماتها متى توفرت الإرادة السياسية والرؤية الواضحة لبناء مجتمع أكثر عدلًا وتماسكًا.

كُتب بواسطة Juma Mohammed

المركزي من درنة: الاتفاق على التواصل مع كل الأطراف لإقرار ميزانية موحدة لعام 2025

لماذا تتمسك المنقوش بصفة “وزير الخارجية” وتصعد في ملف اللقاء الإسرائيلي ؟