بيان الإيراد والإنفاق الصادر عن البنك المركزي (وبغض النظر عن انتقادات البعض له من حيث دقته وشفافيته) إلا أنه حقيقةً يُنشر بشكل منتظم ويحوي بيانات مهمة، وهذا يحسب للبنك المركزي.
وباعتبار أن البيان الذي صدر يوم الخميس 4/7/2024 يغطي فترة 6 أشهر من السنة، فهو يعطينا مؤشرات مهمة يجب أن نقف عندها .
أولاً: الإيراد
ما زال النفط يمثل المورد الأوحد تقريبا من الإيراد العام، إذ أنه يبلغ حوالي 44 مليار دينار وما نسبته حوالي 98% من إجمالي الإيرادات، وهذه مصيبتنا الأكبر اعتمادنا على مورد وحيد ناضب وهذا نعرفه جميعا فلا غرابة، ولكن الغرابة أن يهبط سعر النفط لسبب أو آخر خاصة أننا نعرف أن هدف أمريكا دائما هو سقف 60 دولارا للبرميل، وأنا أخاف أنه إذا ما عاد ترامب للسلطة فإنه سيعمل على تحقيق ذلك، وإذا ما انخفض ( جدلا ) إلى ذلك السعر أو قريب منه هذا فهذا يعني أنه سينخفض بما نسبته حوالي 30% عن متوسط سعره لهذه السنة 2024 البالغ حوالي 82 دولار أو اكثر وهذا يعني أيضاً أن دخلنا النفطي النصف سنوي سوف يهبط إلى حوالي 31 مليار دينار فقط وهذا بالكاد يغطي المرتبات نصف السنوية تصوروا ( لا سمح الله ) أن يحدث هذا فماذا عسانا فاعلين!! أمامنا أحد الخيارين وأحلاهما مر استنزاف الإحتياطي أو تخفيض الدينار !!!
ثانيا: إيراد الضرائب
طبقا لمؤشرات البنك الدولي، فإن متوسط نسبة قيمة الضرائب في دول العالم إلى الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى ما بين 16% و 18% وذلك في شريحة الدول النامية ذات الدخل المتوسط، وإذا ما طبقنا هذه النسبة على ناتجنا المحلي الإجمالي الذي يبلغ نحو 270 مليار دينار ( طبقا للبنك الدولي وصندوق النقد ) فهذا يعني أن إجمالي إيرادنا الضريبي السنوي يجب أن يكون في معدل 40 مليار سنويا أو أكثر أي 20 مليار دينار في نصف سنة، لكن انظروا إلى إيرادنا في بيان المركزي 122 مليون دينار فقط، ومعظمه يمثل ضريبة دخل مرتبات القطاع العام لا غير، وهذه مأساة تدل على قمة الفساد وسوء الإدارة.
ثالثا: رسوم الجمارك
دعنا من مؤشرات البنك الدولي التي تقول إنها ينبغي أن تمثل كمتوسط حوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي في دول مماثلة لليبيا، ونحن نعلم أن كل ما نستهلكه نستورده إلا أننا إذا رجعنا إلى بيان المركزي نجد أن إجمالي الاعتمادات المفتوحة خلال الستة أشهر الأولى من هذه السنة تجاوزت 30 مليار دينار، ناهيك عن التحويلات الشخصية فلو افترضنا فقط أن متوسط نسبة رسوم الجمارك هي 10- 15% فقط على السلع المستوردة مقابل الاعتمادات المستندية، فإننا على الأقل نتوقع أن يكون دخل الجمارك في أقل تقديراته حوالي مابين 3- 4 مليارات دينار، لكن الحقيقة أنها بلغت حسب بيان المركزي 123 مليون دينار فقط، إنها مأساة أخرى تنمّ عن فساد لا يُطاق.
رابعاً: إيراد الإتصالات
15 مليون دينار من شركة محتكرة بالكامل لسوق نشط جدا، ونحن لدينا أعلى معدلات استخدام للهواتف المحمولة والإنترنت في العالم، والله وأنا أقود السيارة في الطريق ما بين جنزور وطرابلس أحياناً، وجدت ومن عينات عشوائية وفي عديد المرات (خاصة عندما يكون هناك ازدحام، وما أكثره عندنا) أن أكثر من 75% من سائقي السيارات الخاصة يستخدمون النقال في النت أو الحديث وهم يقودون سيارتهم وأحيانا تجد شخصين أو أكثر في السيارة الواحدة كلهم يستخدمون النقال، فتصوروا إيراد المدار وليبيانا كم سيكون خاصة أنه دخل مضمون ونقداً.
عالميا وكمتوسط دولي فإن تراخيص الاتصالات وشركات الاتصال تساهم ما بين 6% – 10% من الناتج المحلي الإجمالي للدول، وهذا يعني أنه كمتوسط يجب أن تساهم عندنا شركات الاتصالات بحوالي 17- 27 مليار دينار كإيراد عام سنوي، أين نحن من ذلك المبلغ السنوي المحدود جداً، إنها كارثة أخرى.
وأما الإنفاق، فلا تزال معضلتنا الأولى المرتبات فهي حوالي 25.7 مليار دينار بدون شهر يونيو، أي أنها ربما تتجاوز 31 مليار ولمدة نصف السنة وأنا متأكد بأنها ستتجاوز الـ 60 مليار سنوياً وبكثير، وذلك إذا ما أخذنا نسب الارتفاع الكبير في فاتورة المرتبات خلال السنوات الأخيرة وبمتوسط زيادة حوالي 25- 30% سنوياً، سوف نصل إلى أعتاب الـ 90 مليار دينار خلال السنتين أو الثلاث القادمة إذا ما استمررنا على هذا الحال، وعندها ستلتهم فاتورة المرتبات كل إيراد النفط وزيادة، الآن تلتهم حوالي 70% من إيرادات النفط، فتصوروا لو هبطت أسعاره (كما أسلفت) فماذا عسانا فاعلين؟!.
المشكلة الأخرى الدعم، وخاصة دعم الوقود، والمأساة أن المستفيد ليس المواطن (على محدودية استفادته في وقود سيارته) إلا أن المستفيد الحقيقي هم عصابات التهريب ومن والاهم، مع ملاحظة أن قيمة الدعم المشار إليه في البيان هو فقط جزء محدود، إلا أن الكمية الأكبر هي التي تتم بالمقايضة مباشرةً بين المؤسسة وشركة البريقة وشركات التكرير، يقدر البعض أن المبلغ المهرب من الوقود يتجاوز الـ 40% من الوقود المدعوم وبمليارات الدولارات سنوياً، والأغرب من قيمة النفط المدعوم بعشرات المليارات، نجد أن قيمة بيع المحروقات بالسوق المحلي 32 مليون دينار فقط .
كم أكون ممتناً وسعيداً بدعم المواطن بنفطه وبأي شكل سلعي أو نقدي إلا أن مصيبتنا في التهريب ومريديه فماذا عسانا فاعلين؟!
وأما عن الباب الثالث في الإنفاق، وهو باب التنمية فهو صفر كبير، ولكم أن تتصوروا دولة بلا تنمية على الإطلاق كيف لها أن تستمر وهل يمكننا إطلاق اسم دولة عليها أصلا إلا إن كنا نخجل من أنفسنا، لا حول ولا قوة إلا بالله .
تلك بعض المؤشرات والأرقام المؤسفة في بيان المركزي التي يلزمنا الوقوف عندها ومعالجتها بروح المسؤولية الوطنية الصادقة.
in مقالات