ذكر الدكتور “محمود جبريل” -رحمه الله- أن الولايات المتحدة الأمريكية كشفت للقذافي، خلال فترة السبعينيات، عن 27 انقلابًا ضده. وكان القذافي وإعلامه يخرج عقب كل محاولة ويدين الإمبريالية والمؤامرات الأمريكية، ويزعم أن أمريكا تعمل على إسقاط حكمه!!
التقى الدكتور جبريل عددا من الدبلوماسيين الأمريكيين، منهم “بلمر” الذي كان سفيرًا أثناء انقلاب القذافي، و”ديفيد نيوسن” الذي كان موجودا في ليبيا ثم أصبح مسؤولًا عن الملف الليبي داخل وزارة الخارجية الأمريكية، وكذلك “جوزيف ساندرز” الذي صار قائمًا بالأعمال بعد تخفيض العلاقات بين ليبيا والولايات المتحدة الأمريكية. وجميعهم أكدوا أن مبررهم في ذلك هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتطلع إلى أن تكون ليبيا قاعدة لمواجهة المد الشيوعي. ولكن عندما سأل جبريل وزير الخارجية الليبي الأسبق منصور الكيخيا -رحمه الله- عن مبرر أمريكا في الكشف عن الانقلابات ضد القذافي؛ رد بتلاوته للآية الكريمة: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، لحثه على عدم البحث عن الأسباب.
الحراك الأمريكي
مرة أخرى، تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام تحدٍ متسارع يتمثل في تمدد نفوذ الدول التي كانت تُوصف سابقاً بأنها شيوعية؛ (الصين وروسيا) نحو أفريقيا. الصين تسعى لتعزيز وجودها الاقتصادي القوي في أفريقيا عبر استثمارات واسعة، بينما تعمل روسيا على تعزيز نفوذها العسكري في القارة. وليبيا تعتبر بوابة لهذا الاهتمام الصيني والروسي، مما يخلق منافسة جيوسياسية جديدة في المنطقة.
الحراك الأمريكي النشط في سباق مع الزمن، بعد الفشل المريع للمبعوثين الدوليين “يان كوبيتش” و”عبدالله باتيلي” اللذين أشرفا على عودة الانقسام السياسي واستمراره. هذا الحراك الأمريكي يسعى لتنشيط التوصل إلى حكومة موحدة إما باتفاق سياسي جديد وإما بالاستفادة مما هو موجود. أمريكا ترى أن الوقت ما زال في صالحها، وأن الفرقاء السياسيين، رغم محاولاتهم مد جسور مع الصين وروسيا، لا يزالون في إطار لا يشكل تهديدًا للمصالح الأمريكية. حتى استعانة حفتر بمجموعة الفاغنر، كانت في البداية بضوء أخضر أمريكي، وكان يهدف إلى تمكينه من السيطرة على كامل التراب الليبي في محاولته السابقة في 2019. إلا أن تجاوز الفاغنر للضوء الأخضر واستغلاله للتسلل نحو دول الساحل والصحراء، دفع بأمريكا لتحويل الضوء الأخضر غربًا -وذلك بغض الطرف عن التدخل التركي- بعد أن كان شرقًا بالسماح بتدخل الفاغنر.
اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية لم يقتصر على اللقاءات المختلفة مع الفرقاء السياسيين والعسكريين في ليبيا، بل قدم لهذا الاهتمام بقانون الهشاشة وقانون الاستقرار. قانون الهشاشة يهدف إلى إنشاء حكومة وطنية موحدة في ليبيا قادرة على تقديم الخدمات وضمان الأمن، وتشمل دعم الانتخابات الوطنية وتحسين الوصول إلى العدالة والمساءلة، مع جهود لتهيئة الظروف لنزع السلاح وإعادة دمج المقاتلين السابقين. بينما يهدف قانون الاستقرار إلى دعم الاستقرار بليبيا من خلال الجهود الدبلوماسية وفرض عقوبات على الكيانات الأجنبية التي تعرقل السلام وترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان، إضافةً إلى تعزيز الحكم الرشيد ومكافحة الفساد، ودعم التعافي الاقتصادي.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بتعيين سفير فوق العادة، فمن المتوقع أن تتسلم السفيرة الأمريكية “جينيفر جافيتو” مهامها كسفيرة للولايات المتحدة في ليبيا. وهي دبلوماسية محترفة شغلت مناصب عليا في وزارة الخارجية وعملت في العديد من الدول، بما في ذلك دول من المنطقة. يأتي تعيينها كسفيرة فوق العادة لتتمتع بصلاحيات واسعة في ظل المخاوف الأمريكية من التوسع الروسي في غرب أفريقيا والصحراء الكبرى.
تناغم وتضارب مع المصالح الأمريكية
أمريكا لديها خمس مصالح على الأقل في ليبيا: استدامة تدفق النفط لضمان استقرار إنتاجه كجزء من استراتيجيتها لتأمين مصادر الطاقة العالمية، وتحجيم المشروع الصيني الناعم والمشروع الروسي الخشن، ومكافحة الإرهاب حيث يمكن لليبيا أن تكون قاعدة له أو قاعدة لمكافحته، مما يؤدي إما إلى تعزيز الأمن الإقليمي والعالمي وإما إلى تهديده. المصلحة الخامسة، ما بين ظفرين، هي “نشر الديمقراطية”.
تختلف ليبيا مع أمريكا في ثلاث قضايا أساسية: أولاً، في تعريف الإرهاب وبالذات في تصنيف الحركات كإرهابية أو حركات تحرر مشروعة، وهي مشكلة عالمية تعكس صعوبة الوصول إلى تعريف موحد للإرهاب.
القضية الثانية تتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث تسعى الولايات المتحدة للضغط على الحكومات العربية للاعتراف بالكيان الصهيوني، بينما يرفض العقل الجمعي الليبي ذلك إلا في إطار حل عادل للقضية الفلسطينية، وبإرادة فلسطينية حرة، وبممثلين حقيقيين عنهم.
أما الخلاف الثالث فهو التفسير العملي لنشر الديمقراطية، فالسائد في المنطقة أن العمل على نشر الديمقراطية يكون بتمكين مستبد بثوب ديمقراطي، وهذا لا يجب أن يكون بحال. نتوقع من الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، أن تحترم التضحيات التي قدمت من أجل إنهاء الاستبداد، وعليها أن تساعد ليبيا لتمهيد الطريق نحو الانتخابات؛ من خلال حوار ينتج عنه ميثاق وطني، وعدالة انتقالية منجزة، ومصالح وطنية جادة، ومن ثم يُعاد صياغة مشروع الدستور ليعكس مخرجات هذا الحوار، وتجرى الانتخابات على أساسه وليس قبله.
إنهاء الانقسام الخارجي ينهي الانقسام الداخلي
المبعوث الدولي الدكتور “غسان سلامة” ونائبته “ستيفاني وليامز” تنبها مبكراً للآثار السلبية للصراعات الدولية في ليبيا وتأثيراتها على الاستقرار، وقادا جهوداً حثيثة لمعالجة هذا الانقسام الخارجي ومن ثم الانقسام الداخلي من خلال إيجاد حكومة وحدة وطنية. ثم عاد الانقسام إلى الواجهة من جديد في عهد المبعوث الأممي السابق “يان كوبيتش” بسبب أخطاء فادحة ارتكبها، مما أعاد إشعال الخلاف الخارجي بين الدول المتدخلة في الشأن الليبي.
من مصلحة ليبيا أن توازن علاقاتها الخارجية لتحقيق المصالح المشتركة، خاصة مع الدول الكبرى، على الرغم من التحديات التي تواجهها بسبب الانقسام السياسي. بعض مصالح هذه الدول في ليبيا متضاربة، ومن هنا يجب على الفرقاء السياسيين تبني استراتيجية تتيح تحقيق أقصى قدر ممكن من المصالح الوطنية، والتعامل مع هذا التضارب ضمن إطار هذه الاستراتيجية، رغم صعوبة المهمة المركبة المتمثلة في إنهاء الانقسام الداخلي والخارجي وضمان تناغمهما لتحقيق المصالح الوطنية في ظل المصالح المتضاربة بين الدول الكبرى.
في ظل تعيين السفيرة جافيتو ووجود سفراء الدول الكبرى والدول المتدخلة في الشأن الليبي بطرابلس، يمكن للممثل الخاص المساعد للأمين العام، ستيفاني خوري، أن تسير بخطى متسارعة باستثمار هذا الوجود لبناء استراتيجية مشابهة لجهود سلامة ووليامز؛ تهدف إلى ضمان دعم الدول المتدخلة في الشأن الليبي لعملية سياسية شاملة تدعم الحوار الوطني وتحترم مبادئ السيادة وإرادة الشعب الليبي.