in

“لا ترمها بل تصدق بها”.. مبادرة ليبية فريدة لحماية البيئة بالعمل الخيري

كتب: عمرو فتح الله

في إحدى أمسيات الربيع الهادئة عام 2013 وأثناء اجتماع روتيني لجمعية الشهيد للتنمية والعمل التطوعي بمنطقة الغويلات بزليتن (160 كم شرق العاصمة طرابلس)، طرح عادل الرطب، فكرةً بدت غير مألوفة على مجلس إدارة الجمعية، وهي أن تطلق مبادرة لجمع النفايات البلاستيكية تحت شعار: “لا ترمِها بل تصدق بها”.

استحوذت الفكرة على انتباه الجمعية وأثارت توجسها في آنٍ واحد، كونها لم تعتد على العمل البيئي من قبل، والذي لم يكن مألوفا بين المجتمع المدني في البلدية، لكن الرطب نجح من إقناع مجلس الإدارة بجدوى المشروع، فهو لن يكلف الجمعية أي مصاريف وسيحل في الوقت ذاته مشكلة بيئية تعاني منها المدينة، ولم يجُلْ في ذهن الرطب حينها أن هذه المبادرة ستكون نواة لواحد من أنجح المشاريع البيئية والخيرية في ليبيا.

من رحم الواقع المرير

بعد انتهائه من عمله الصباحي محاضرًا في المعهد العالي للعلوم بزليتن، يُمضي عادل الرطب، 47 عاما، الجزء الأكبر من مساء يومه في متابعة العمل بالمشروع الخيري لإعادة التدوير، بصفته مديرا للمشروع وصاحب فكرته.

يقول الرطب إن فكرة المشروع ولدت من رحم واقع مرير يعيشه سكان زليتن جميعا، يرون فيه التلوث المهول بالبلاستيك والإغلاق المتكرر لمكابّ النفايات في المدينة، والطرق غير المستدامة في التخلص من المخلفات مثل الحرق الذي أضر بصحة السكان المحليين وتسبب في انبعاث الغازات الدفيئة التي تؤثر سلبياً في تغير المناخ.
ولذلك قرر الرطب عدم انتظار أجهزة الدولة التي تتحجج بغياب الإمكانيات لإنشاء مصانع لإعادة التدوير، وعقد العزم على إطلاق هذه المبادرة البسيطة التي تشجع المواطن على أن يبدأ بإعادة التدوير في منزله.

أما كيف تمكن هو ورفاقه في المشروع من التأثير على المواطنين، فيقول الرطب “إقناع المواطن بأن يبدأ إعادة التدوير لأسباب بيئية محضة قد يكون صعبا، لذلك ارتأيت أن تجمع مبادرتنا بين الجانب البيئي والجانب الخيري، وبهذا نحفز المواطن بأن البلاستيك الذي يرميه ضار بالبيئة وفي الوقت نفسه له قيمة مادية يمكن الاستفادة منها في العمل الخيري الإنساني وتغيير واقع السكان في المجتمع المحلي”.
أما عن تجاوب المواطنين مع بداية الحملة فيضيف “في البداية نشرنا إعلانا في راديو زليتن يطلب من سكان المدينة جلب مخلفاتهم البلاستيكية إلى مقر الجمعية، ولم نكن متأكدين وقتها من نجاح الفكرة، لكننا صدمنا فيما بعد من حجم تجاوب الناس وإيجابيتهم، بل إن بعضهم قاموا بفرز المخلفات وجلبها من مسافات بعيدة”.

أثر لا تخطئه عين

يضع المواطنون البلاستيك بعد فصله في منازلهم داخل سلات المشروع المنتشرة في المدينة والتي بلغ عددها نحو 300 سلة حتى الآن، ثم يجمع البلاستيك من السلات ويفرز بحسب أنواعه ويجري فيما بعد كبسه أو فرمه، وفي النهاية يباع لمصانع البلاستيك في ليبيا ليعاد تدويره محليا أو يصدّر للخارج.
بهذه الطريقة تمكن المشروع الخيري لإعادة التدوير خلال 10 سنوات منذ انطلاقه، من جمع أكثر من 1500 طن من المخلفات الصلبة، من بينها 700 طن من البلاستيك، لينجح في تقليل الأثر السيء للبلاستيك فى البيئة. كما ساهمت هذه الكمية في تخفيض حوالي 1750 طنا من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، فعملية إعادة التدوير تستهلك كمية أقل من الطاقة مقارنة بإنتاج البلاستيك من المواد الخام، مما يقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري ويحد من انبعاثات الكربون.
بالإضافة إلى أن إعادة التدوير تقلل من الحاجة إلى استخدام الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز الطبيعي الذي يستخدم في إنتاج البلاستيك التقليدي، وبذلك المساهمة في المحافظة على هذه الموارد وتقليل الضغط على البيئة.
يستطرد الرطب قائلا “ليس هذا فحسب، فقد وفّرنا بسبب النفايات التي جمعناها مساحةً في مكابّ النفايات تقدر بنحو 8000 متر مربع، كما وفرنا أيضا على خزينة الدولة الليبية نحو 200 ألف دينار ليبي هي تكلفة تجميع ونقل هذه النفايات إلى المكب”.
يؤكد عبد السلام الأشهب، 35 عاما، وهو أحد سكان زليتن، أن تأثير المشروع كان جليا للجميع مع تزايد عدد سلات تجميع البلاستيك في مختلف أحياء المدينة، يقول الأشهب: “كان التلوث بالبلاستيك متفاقماً في المدينة، خاصة في الشوارع والحدائق العامة. لكن مع مرور السنوات، بات يتناقص بشكل ملحوظ، لا سيما في شواطئ المدينة التي أصبحت أنظف من ذي قبل، كما أن المبادرة ساهمت في تعزيز وعي الناس نحو هذه القضية البيئية، وصرنا نرى مبادرات مشابه في مدن قريبة مثل الخمس وغيرها”.

تكامل بيئي وخيري

تمكن المشروع الخيري لإعادة التدوير من تحقيق أرباح بلغت 300 ألف دينار، 40% منها تذهب إلى تطوير وتوسعة المشروع، أما الـ 60% الباقية فتذهب جميعها للعمل الخيري.
يوضح الرطب قائلا: “أوجه العمل الخيري التي أنفقنا عليها متعددة، فقد ساهمنا في عدة حملات تشجير في مدن زليتن والخمس ومسلاتة، وركزنا على الدورات التدريبية التي تؤهل الشباب والنساء لسوق العمل، كما وفرنا معدات لذوي الإعاقة، وقدمنا مساعدات مالية لأكثر من 150 أسرة معوزة، بالإضافة إلى دعمنا مركز غسل الكلى بالمشغلات والأدوية، ومساهمتنا في صيانة بعض الطرق في البلدية.

تلوث حاضر وأرقام غائبة

عند سؤالي لأي أكاديمي أو خبير بيئي عن حجم التلوث البلاستيكي في ليبيا فإنه يجيبني فورا دون تردد، بأنه تلوث مهول، بناء على الشواهد التي أمامه ولكن دون أن يمنحني أرقاما أو دراسات تعزز قوله.
لكن تقريرا للبنك الدولي عام 2018 تحت عنوان “ما هي النفايات 2.0: لمحة عالمية عن إدارة النفايات الصلبة حتى عام 2050” أشار إلى رقم لافت للإنتباه، وهو كمية النفايات الصلبة التي يولدها المواطن الليبي الواحد كل يوم والتي تبلغ 1.05 كجم، والذي يعتبر أعلى رقم في دول شمال إفريقيا على مستوى الفرد، وبالمناسبة هو أعلى أيضا من متوسط الفرد بمنطقة الشرق الأوسط والبالغ 0.81 كجم والمتوسط العالمي للفرد 0.74 كجم، وبحسب الدراسة نفسها فإن نسبة النفايات البلاستيكية خاصة من النفايات الصلبة عامة تبلغ 12% أي أن الفرد في ليبيا يولد سنويا نحو 46 كجم من البلاستيك.
كما سلطت دراسة تعود للعام 2016 الضوء على تلوث الشواطئ في ليبيا. الدراسة التي شارك فيها النادي الليبي للمخلفات الطبية وعدة مؤسسات بيئية عربية أخرى، وشملت 6 شواطئ في 4 دول، منها 3 شواطئ في العاصمة طرابلس، أثبتت انتشار ظاهرة التخلص من المواد البلاستيكية بشكل كبير مقارنة بالمؤشر العالمي، حيث بلغ عدد عبوات الشراب البلاستيكية 266 عبوة/هكتار من الشاطئ، وعدد أكياس البلاستيك 178 كيسا/هكتار.

في محاولة مني لمعرفة حجم البلاستيك المنتشر في ليبيا ولو بشكل تقريبي، توجهت إلى وزارة الاقتصاد والصناعة بحثا عن أي أرقام حول إنتاج ليبيا المحلي من البلاستيك، ففوجئت بأن الإنتاج الحكومي للبلاستيك الخام في مصنعي “أبوكماش” و “رأس لانوف” متوقف منذ عقد ونيف، كما أن الوزارة لا تملك أرقاما عن إنتاج مصانع القطاع الخاص في البلاد وهي كثيرة ومنتشرة في مدن عدة.
طرقت أيضا باب مصلحة الإحصاء والتعداد للبحث في بيانات التجارة الخارجية، وتمكنت من الحصول على سجلات خام البلاستيك المستورد بجميع أنواعه منذ عام 2011 حتى عام 2020، الذي بلغ مجموعه مليونا و992 ألف طن من البلاستيك، أي بمتوسط سنوي يقدر بنحو 200 ألف طن، وتقتصر هذه الأرقام على الخام ولا تشمل المنتجات أو المغلفات البلاستيكية الجاهزة.

سألت إبراهيم بن دخيل، مدير الإدارة العامة لشؤون الإصحاح البيئي بوزارة الحكم المحلي، عن وجود أي دراسات أو أرقام دقيقة عن كميات النفايات البلاستيكية التي يجري توليدها في البلاد، فأجاب قائلا: “إن معدل إنتاج النفايات يعتمد على منظومة الموازين التي نفتقر إليها، لكن بحسب بعض التقديرات فإن الإنتاج السنوي من المخلفات الصلبة يبلغ حوالي 2.5 مليون طن، منها حوالي 350 ألف طن من البلاستيك فقط”.

آثار صحية وبيئية

عند ذكر البلاستيك لا بد أن يأتي ذكر أضراره على البيئة والإنسان، وبحسب بن دخيل، يرجع السبب إلى تركيبه الكيميائي الذي يضم البوليمير (سلسلة من الكربون) بالإضافة إلى مركبات كيميائية أخرى تُضاف خلال عملية التصنيع وتُعدّ أكثرها مركبات شديدة الخطورة والسمية، تتحلل في التربة ببطء وتطلق مواد لها تأثيرات سلبية على قدرة النباتات على النمو والتكاثر.
يتابع بن دخيل: “حرق البلاستيك أو تحلله ينتج عنه عدة مركبات منها مركبات الديوكسين التي لها أضرار صحية على الجهاز التنفسي للإنسان وعلى الجينات، وتعتبر من أخطر المركبات المسرطنة”.
وهنا تلفت د. لبنى شهوب، أستاذة علم البيئة بجامعة طرابلس، النظر إلى مشكلة حرق النفايات في ليبيا، التي يعمد إليها المواطنون للتخلص من المخلفات التي يصعب تحللها مثل البلاستيك، فينجم عنها انبعاث لغازات كالميثان وأكاسيد الكربون والنيتروجين والكبريت، التي تسهم في زيادة تغير المناخ وتلوث الهواء.
نتيجةٌ مقلقةٌ وصلت إليها دراسة علمية لجامعة طبرق عام 2022 عن تلوث الأسماك بالجزيئات الدقيقة من البلاستيك أو ما تسمى بالمايكروبلاستيك Microplastic. حيث جمعت 61 عينة من الأسماك ذات الاستهلاك المحلي في خليج طبرق شرق ليبيا، وكانت نسبة التلوث بالمايكروبلاستيك في عينة الأسماك المدروسة تبلغ 100%، أي أن كل أسماك العينة كانت تحتوي على المايكروبلاستيك في خياشيمها وأمعائها.
بالنسبة للتلوث البحري توضح شهوب أنه نتيجة لتراكم البلاستيك بكميات كبيرة في الطبيعة، فإنه يجد طريقه نحو البحار والمحيطات، فتتغذى عليه الطيور والأسماك والكائنات البحرية الأخرى ظنا منها أنه غذاء، فيتراكم في أمعائها حتى تصل إلى مرحلة الشبع وتبدأ في الموت بصورة بطيئة ومؤلمة.
تتابع شهوب: “يتكسر البلاستيك بفعل تعرضه لضوء الشمس والرياح والأمواج إلى جزيئات المايكروبلاستيك التي تتراكم في أحشاء الأسماك وتصل إلى الإنسان عن طريق تغذيه عليها، فتؤثر على الكبد وتسبب اضطرابا في عملية الأيض واختلالا في الجهازين المناعي والغدد الصماء، وتؤثر أيضا على الدماغ والرئتين ونخاع العظم، وقد تؤدي إلى الإصابة بالسرطانات”.
يشير تقرير للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة IUCN نشر عام 2020 بعنوان، البحر الأبيض المتوسط: بحر البلاستيك، إلى أن العاصمة الليبية طرابلس، تعد بين أكثر 10 مناطق تسريبا للنفايات للبحر المتوسط. كما أنها تأتي في الترتيب الثالث في تسرب المايكروبلاستيك إلى المتوسط بمعدل 54 طنا من المايكروبلاستيك سنويا.

فرص واعدة وقوانين محبِطة

تعتبر إعادة تدوير النفايات من المجالات الحيوية التي تتيح فرصا واعدة لتعزيز الاستدامة البيئية وتوليد الثروة ودعم الاقتصاد المحلي، بدلاً من التخلص من النفايات البلاستيكية في مواقع الطمر النهائية، يمكن إعادة تدويرها واستخدامها كمواد خام لإنتاج منتجات جديدة، مما يخفض من الضغط على الموارد الطبيعية ويحد من التلوث البيئي.
تتوقع دراسة تقييمة حول إعادة التدوير المستدام للنفايات الصلبة في ليبيا شارك فيها باحثون من ليبيا والسعودية وماليزيا وباكستان، أنه بحلول العام 2030 سيبلغ المعدل السنوي لتوليد المخلفات الصلبة في البلاد نحو 4.8 ملايين طن، وستشمل الفوائد المتوقعة من إعادة تدوير النفايات الورقية وحدها زيادة الناتج المحلي للدولة بنحو 734 ألف دولار أمريكي، كما ستخلق نحو 1134 فرصة عمل جديدة.
وعلى الرغم من الفرص الواعدة للاستثمار في هذا المجال، إلا أن الرطب يشير إلى وجود إشكالية في القوانين الليبية التي تعدّ عتيقة مقارنة بقوانين دول الجوار التي تنظم لمفاهيم أكبر كالاقتصاد الدائري، بحسب قوله.
ويشاطره الرأي بن دخيل قائلا: “عند الحديث عن الاقتصاد الدائري من حيث الفرز وتدوير النفايات فإن المواد التي تنظم وتشجع على تعزيز مفاهيم الاقتصاد الدائري في القانون الليبي شحيحة”.
كما يقول تقرير لمؤسسة فريدريش إيبرت نشر عام 2022 بعنوان “الدليل الإصلاحي للخدمات العامة في ليبيا” أن القوانين الليبية لإدارة النفايات الصلبة متضاربة، وتفشل في تشكيل إطار قانوني شامل لإدارة النفايات الصلبة في البلاد، ذلك لأن ليبيا أصدرت العديد من القوانين والقرارات التي تتناول إدارة النفايات الصلبة دون إسترايتيجية شاملة للقطاع، وبالتالي سيشكل الإطار القانوني لإدارة النفايات الصلبة تحدياً لأي مبادرة تعمل نحو تحسين الخدمات.

في نهاية كل يوم، بعد عناء العمل في المشروع، يعود عادل إلى منزله، يرتاح إلى حضن أبنائه السبعة، وهو يرنو إليهم بعيون تنبض بالأمل والتفاؤل، متمنيا لهم مستقبلا يزهو ببيئة أفضل ويحلم بأن يكونوا جزءا من تغير إيجابي يشمل العالم بأسره. في لحظات الهدوء هذه، يشعر بالفخر والسعادة لما يقدمه من جهود، ولما يأمل فيه لأحبائه.
يختم الرطب حديثه قائلا: “نأمل أن تكون مبادرتنا نواة لتعريف الجميع بأنه يمكن إعادة التدوير في ليبيا، وبأنه بدل انتظار الإمكانيات الضخمة فإنه يمكن لمشاريع صغرى ومتوسطة أن تحدث فارقا كبيرا في حياتنا، فمشوار الألف ميل يبدأ بخطوة”.

ملاحظة
أُنتج هذا التقرير بدعم مالي من الاتحاد الأوروبي وFPU، والكاتب هو المسؤول الوحيد عن محتوياته، ولا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي

في مثل هذا اليوم 25 يونيو من عام 2014

حرمان طالب من الامتحان في جميع مواده لاعتدائه على عضو لجنة إشراف