in

حتى لا تضيع التوافقات الوطنية في نزوات التسويات الفردية

لم تعد سرا تلك الاتصالات واللقاءات التي تجمع في الخفاء والعلن ممثلين عن حفتر وطيف يأتيهم فرادى من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين وحتى الأمنيين من الجهة الغربية، يبحثون عن تسويات فردية لوضعهم الشخصي بما يخدم طموحاتهم السياسية، في ما يعتقدون أنه مرحلة جديدة مقبلة لقيادة البلاد نحو الانتخابات.

ولسنا هنا في موقع من يزايد أو يستكثر على كل صاحب مبادرة للمّ شمل الليبيين وتوحيدهم حتى لو كان يمثل شخصه فقط، أو يمثل مصالح فئة صغيرة قريبة منه، بل للانتقاد هنا سببان:

الأول: هو أن بعض من كان يكيل التهم يمنة ويسرة لمن دعم مشروع الحكومة الليبية، ويطعن في من نادى باستغلال الفرصة التاريخية لتوافق ليبي ليبي، ويصفهم بالمنبطحين الذين باعوا دم الشهداء، لم يعد يجد حرجا في التواصل جهرا وسرا مع الطرف الآخر، للبحث عن موطئ قدم له في المشهد الجديد، بل إن بعضهم يشد الرحال لشتات العواصم القريبة والبعيدة ليفعل ذلك، ويفضل أن يطلب لنفسه سرا ما عابه على جهة رسمية كالمجلس الأعلى للدولة مثلا أن يفعله في جهد تفاوضي علني ومؤطّر، وبحسب المهام الموكلة إليه في نص الاتفاق السياسي، مسنودا بكتلة كبيرة من القادة العسكريين خاصة قادة بركان الغضب، أما البعض الآخر من هؤلاء المولعين دوما بسياسة التهييج السياسي والإعلامي لضرب أي توافق، فأصبح الآن يقف موقف المتفرج عاجزا عن اقتراح أو تقديم أي تصور للحل، خارج لعبته المفضلة بإطلاق النار على تيار التوافق.

والسبب الثاني: هو لماذا يعتقد بعض هؤلاء من هواة الصفقات الفردية، أن موقعه في أي ترتيبات قادمة تنهي الانقسام وتوحد البلاد قبل الانتخابات سيكون أفضل لو تقدم بمفرده يمثل نفسه أو يمثل زمرة صغيرة ممن يواليهم، بدل أن يكون ضمن حل جماعي تتصدره المؤسسات والهيئات الجامعة، ويراعي التوازن والعدل والمكاشفة؟! والحقيقة هي أنّ أيّ تسوية متوازنة تدعم الاستقرار لن تتم إلا بجلوس أطراف الانقسام والاتفاق على تفاصيلها، أما حالة التشتت التي يوجد فيها قيادات ورموز المنطقة الغربية فستكون نتيجتها المباشرة تسوية مشوّهة تحقق الرغبات الشخصية للبعض على حساب بناء قاعدة صلبة لحل متوازن شامل.

يعلم هؤلاء جيدا أن مخاض تأسيس الحكومة الليبية لم يكن في بدايته سوى عنوان ظاهر يرجى منه أن يقود إلى تسوية أكبر وأعمق، تعيد لملمة الكيان الوطني المشظى، بعيدا عن التدخلات والأجندات الخارجية.

فقد جاء المشروع بعد فشل أو إفشال مشروع انتخابات ديسمبر 2021، وبعد حرب طرابلس التي أسقطت فكرة حكم ليبيا بقوة الحديد والنار، وأقنعت أصحاب هده الفكرة أنه لا مناص من تسوية شاملة لا تقصي أحدا، لكننا نخاطر اليوم بأن نحيي هذه الفكرة مجددا بسبب تشتت المنطقة الغربية وعجز نخبها عن الحديث بصوت موحد مسموع، مثل ما أظهروا في تعاطيهم مع مشروع الحكومة الليبية التي كان الهدف منه هذا اختبار قدرتنا كليبيين على تجاوز الانقسام، وعلى العمل معا، والتحرر من الإملاءات الخارجية.

ولا شك أن هذا بالذات ما أخافَ أطرافا دولية كانت حتى تلك اللحظة تتغنى بدعم كل ما يتفق عليه الليبيون، لكنه بمجرد ما تبين لها أن هؤلاء الليبيين قادرون فعلا على التوافق دون الحاجة إليها، تملكها الخوف من أن يكون الاستغناء عنها بداية للإضرار بمصالحها الظاهرة والخفية، ولهذا حُورِبَ المشروع.

كان نجاح اختبار الحكومة الليبية سيقود لتسوية أشمل، تتيح لتيار الثورة والدولة المدنية ومحيطهما الاجتماعي الواسع في المنطقة الغربية، أن يسهم من موقع الشريك الكامل وبشكل سلمي ومتوازن في حسم الملفات الخلافية التي تعرقل مسار بناء الدولة، ومنها ملف تقاسم الثروة والتوازن المناطقي في مشاريع التنمية والإعمار، والتوافق على الخلاف الأبدي المزمن حول تسمية المناصب السيادية في الدولة، وتحرير مشروع توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية بقيادة اللجنة العسكرية المشتركة الذي بقي يراوح مكانه، وصهر المنظومة المالية للدولة في ميزانية موحدة بما يكشف بوضوح مصادر الدخل ومخارج الإنفاق ويسد أبواب هدر المال العام وتبديد الثروة.

وهي تسوية شاملة كانت ستعيد بناء الدولة الوطنية، وتترجم بحق وعدل عبارة “دم الشهداء ما يمشيش هباء” التي بقينا نرددها منذ فبراير 2011، وتستكمل إلى نهايته المرجوة المسار الذي توافق عليه الليبيون في الصخيرات سنة 2015، تتمة لجهد تيار ليبي وطني ظل منذ ذلك التاريخ يعمل وفق رؤية ناضجة ومسؤولة، لوقف حمام الدماء، ورتق الشرخ العميق الذي أصاب النسيج الاجتماعي، وتوحيد مؤسسات الدولة، وإرساء قيم الحرية والديموقراطية والتنمية الاقتصادية الصلبة.

اليوم سواء فقدت الحكومة الليبية القدرة على تحقيق الغرض الأول من وجودها، أو ما زالت قادرة على ابتكار حلول لتجاوز حالة الانقسام، فالأكيد أن حالة التشظي التي نعيشها كمؤسسات ومجتمع تملي علينا أن نتجاوز المسميات السياسية ونتمسك بالمشروع، والبداية من الكف عن نزوات التسويات الفردية، التي لن تفعل سوى زيادة تفكيك التيار الواسع للدولة المدنية و ثورة فبراير، وبدلا عنها يجب البحث عن أرضية جامعة تتحدث بصوت واحد ومسموع، والتمسك بما نتج حتى الآن من خطوات كبيرة وأهمها توافقات مجلسي النواب والأعلى للدولة.

كُتب بواسطة سالم محمد

الحديد توقع مذكرة مع شركة إيطالية لإنشاء مصنع ينتج مليونَي طن سنويا

بلدية زليتن: منسوب المياه الجوفية كما هو ولاحظنا ازدياد البعوض