Menu
in

ليبيا تتعافى من الإرهاب

تقرير جديد لمؤشر الإرهاب العالمي (GTI) يضع ليبيا في المرتبة التاسعة والثلاثين بـ 2.5 نقطة من عشرة بعدما كانت تشكل تهديداً واضحاً – من خلال المؤشر – أثناء السنوات العشر الأخيرة كإحدى الدول الحاضنة للإرهاب والمتأثرة به بشكل كبير والمؤثرة على محيطها وعلى دول العالم، بعدما تردت الأوضاع الأمنية في ليبيا وتصاعدت التهديدات الإرهابية خلال سنوات 2014 و 2015 و 2016 إلى أسوأ مستوى، إذ بلغت المرتبة الرابعة عشرة رفقة دول العراق وأفغانستان ونيجيريا التي تسيطر على أجزاء منها داعش وطالبان وبوكوحرام على الترتيب، بينما كان أنصار الشريعة وتنظيم القاعدة وداعش تسيطر على أجزاء من بنغازي ودرنة وسرت وصبراتة وتقوم بعمليات إرهابية نوعية من أشهرها تفجير معهد تدريب شرطة في مدينة زليتن (160كم شرقي طرابلس) الذي قضى على إثره ما يزيد على ستين ضحية، وكذلك مذبحة الأقباط في سرت ومقتل عديد المدنيين في درنة وبنغازي وتفجيرات في القبة ومصراتة.
لم يكن من المتوقع أن يتسلل الفكر المتطرف بهذا العنف إلى المجتمع الليبي الذي يعد مثالا للاعتدال والوسطية، وأن تصبح ليبيا في سنوات ما بعد الثورة بيئةً خصبةً ووجهةً ومقصداً لزعماء التنظيمات الإرهابية والمتطرفين ليؤسسوا فيها الإمارات الإسلامية ويستغلوا الموارد والثروات ويسطوا على المصارف ويشكلوا أجنحة عسكرية هددت دون هوادة كيان الدولة الليبية الذي مزقه الانقسام المؤسساتي والتناحر الاجتماعي والاصطفاف السياسي مع المحاور التي تشكلت ما بعد الربيع العربي.
وعلى الرغم من أن الإرهاب يتميز بطابعه العابر للحدود الوطنية، إلا أننا يمكننا القول بأنه تَسللَ إلى ليبيا تحديداً وتمدد وفقاً لعدة عوامل، لعل أبرزها غياب سلطة الدولة وزيادة حدة التخاصم حول الغنيمة وإهمال الشروع في تأسيس ركائز القطاعات العسكرية والأمنية والمدنية على السواء؛ إذ كانت الدولة الليبية مفككة بحالة يرثى لها ما بين ضعف لحكومة المؤتمر الوطني العام (المجلس التشريعي من 2012 حتى 2014)، وضعف المؤتمر الوطني نفسه – كونه القائد الأعلى للجيش الليبي – في إدارة البلاد، وتحول الصراع السياسي إلى أداة للمناكفة والمتاجرة السياسية حتى سقطت مدينة درنة في أقصى الشرق الليبي تحت سطوة تنظيم القاعدة بشكل علني، وشكل التنظيم المسيطر عليها تهديدا محليا وإقليميا في ظل موجة علو كعب الإرهاب في العالم وتَشَكُّل تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على مناطق شاسعة من العراق وسوريا، وقد سَبَّبَ ضعف الإدارة السياسية للبلاد في فشل التعامل مع سيطرة تنظيم القاعدة على مدينة درنة آنذاك وما تبعه من اغتيال النائب العام الأسبق المستشار “عبدالعزيز الحصادي” وعضو المؤتمر الوطني المستقيل الأستاذة “فريحة البركاوي”، والتي لم تلقَ الاهتمام المطلوب أو الرد السريع فلم تتحرك لا رئاسة الأركان ولا وزارة الدفاع للتعامل مع هذا التطرف بل استشرى الورم وطال بنغازي بسلسلة من الاغتيالات السياسية والعسكرية فجرت الأوضاع لاحقا، والأنكى من ذلك وجود فئة تسيطر على مؤسسات الدولة السياسية والدينية قد أنكرت وجود التنظيمات الإرهابية وتسترت عليها بل وصل بها الأمر إلى أن شجعت على التحالف معها ضد قوات الجيش.
الحرب على الإرهاب في ليبيا
دون أدنى مهادنة؛ لم يقبل الليبيون رؤية انتشار ظواهر سيطرة المتطرفين على قرى ومدن ومجتمعات في ليبيا، ورغم قبولهم بالحكم الشمولي لسنوات لكنهم استهجنوا سيطرة تنظيم القاعدة على درنة سنة 2012 وتفشي سلسة الاغتيالات للعسكريين في بنغازي وظهور الإرهابيين هناك ونشر مقاطع الفيديو لما أسموه بالشرطة الإسلامية ودولة التبشير التي كان بها متطرفون من جنسيات عدة، وأيضا سيطرة داعش على سرت وارتكابهم الجرائم بالغة الشناعة والبشاعة كذبح الأقباط المختطفين والسحل والتمثيل بالقتلى وترويع الناس، والإعلان عن إمارة لهم على ضفاف المتوسط والتمدد شرقا وغربا وتهديد المواني والحقول النفطية والسيطرة على صبراتة والقيام بتنفيذ عمليات إرهابية في قلب العاصمة طرابلس كتفجير فندق كورنثيا ووزارة الخارجية والمؤسسة الوطنية للنفط والمفوضية العليا للانتخابات.
وإلحاقا لهذا الاستهجان والرفض قاوم الليبيون من منطلق وطني وديني التطرف والإرهاب دون هوادة، فتكاتفت جهود العسكريين وتنظمت تحت القيادة العامة للجيش حتى تم تحرير وتطهير بنغازي ودرنة من الإرهابيين، وملاحقة الفلول الإرهابية الهاربة إلى الجنوب وإنهاء أي تواجد لها، كما تحولت معركة البنيان المرصوص في سرت ضد تنظيم الدولة إلى أيقونة العمل الوطني الذي تلاحم فيها الليبيون للمرة الأولى منذ حرب التحرير لمقاتلة عدو خارجي، فقد سجل أبطال ملحمة البنيان أسطورة النصر على أكبر معقل لتنظيم الدولة في شمال افريقيا وثالث أكبر إمارة شكلها داعش بعد الموصل والرقة، بمساعدة المجتمع الدولي وعلى الأخص الدعم الكبير من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة البريطانية.
ومن خلال دوري في ثورة 17 فبراير وبحكم التخصص السابق وخبرتي في سلاح الجو تم تكليفي من قبل المجلس الرئاسي – القائد الأعلى للجيش الليبي – سنة 2016 للقيام بدور منسق العمليات العسكرية لعملية البنيان المرصوص، فكنت شاهدًا على شراسة المواجهات وجسامة التضحيات حتى تم اجتثاث تنظيم داعش الإرهابي من سرت وكامل المنطقة.
تهديد عودة الإرهاب إلى ليبيا
إحباط محاولات تسرب وانتشار الإرهاب إلى الدول يحتاج إلى تحصين أمني واجتماعي وديني، فكما نشاهد؛ أن يد الإرهاب وعمليات الذئاب المنفردة تطال نيجيريا ومالي، تطال أيضًا فرنسا وبلجيكا، فالتحصين الأمني هو ركيزة مهمة للقضاء على الإرهاب أو الحد من تأثيره، إضافة إلى معالجات حقيقية للأوضاع المعيشية والاجتماعية والفكرية حتى لا يتحول الشباب الغاضب إلى مواد قابلةً للانفجار يتم استخدامها كقنابل موجهة ضد أي عدو ولو كانت أسرته نفسها.
ليبيا بحاجة ملحة إلى حزمة من الإصلاحات الحقيقية على مستوى القطاع الأمني، خاصة بعد تعثر عمل لجنة 5+5 وضياع الجهود السابقة لضبط السلاح وتصنيف التشكيلات المسلحة ضمن برنامج “DDR”، وللأسف في المقابل أغدقت الأموال على التشكيلات المسلحة التي تعمل خارج أطر الدولة، حتى أصبحنا أمام معضلة تضخم “المليشيات” وتدخلها في القرار السياسي والمالي والاقتصادي للدولة، والإبقاء على استمرار أجسام شبه عسكرية منفلتة سيمثل مأزق كبير للدولة الليبية، كما أن ضمها ككيانات سيشكل السيناريو الأسوأ لجيشٍ مقامٍ على الجهوية ناهيك عن عدم المهنية وغياب قيم المؤسسة العسكرية، فلابد من الخروج من قفص القبلية والمناطقية إلى رحاب العقيدة الوطنية، ومن الفوضى إلى الانضباط والالتزام بالقانون.
لقد وصلنا إلى انجاز عظيم بكثير من الدماء وقدر وفير من الآلام؛ إذ خرجت ليبيا من القوائم الأولى للدول المتأثرة من الإرهاب نتيجة استقرار مؤقت قابل للزوال في حال استمرار غياب سلطان الدولة وسوء إدارة مواردها وانقسام وضعف مؤسستي الجيش والأمن وانحراف الخطاب الديني، فالدول التي تتصدر القائمة بحسب التقرير للعام المنصرم لمؤشر الإرهاب العالمي هي دول ليست بالضرورة أن تكون فقيرةً من الأساس لكنها فاشلةٌ في إدارة مواردها وضبط أمنها وتحقيق جودة ملحوظة في حياة المواطن.

رئيس الحكومة الليبية السابق فتحي باشاغا

كُتب بواسطة إبراهيم العربي

Exit mobile version