إدراك الواقع السياسي ومعرفة تفاصيله وطبيعة التصرف بشأنه يمكن اكتساب الخبرة فيه من خلال ممارسة العمل الإسلامي السياسي، والاحتكاك بأصحاب التجارب ممن لهم اجتهادات في حقل السياسة الشرعية والقضايا المتعلقة بالدولة الحديثة وما نتج عنها من تطور وتخصص في المؤسسات في شتى مناحي الحياة عامة والسياسية خاصة، فالانتخابات والبرلمانات ومهامها وأنواع الأنظمة الرئاسي والبرلماني والمختلط وطريقة عملها وكيفية التعاطي معها والعمل من خلالها، أمور معاصرة وأشكال حديثة للحكم أنتجها الواقع الجديد للأمة، كتب فيها كثيرون من رواد الفقه والفكر الإسلامي، وهذا الحقل من الفكر الإسلامي لم يعرف عن المفتي الشيخ الصادق الغرياني ممارسته، بل المعروف عنه التزامه بدور الفقيه المالكي، المهتم بمجال تخصصه والمعتني بمسائلَ تمثلت في الاستدلال للمذهب وإعادة صياغته وتقريبه من طلبة العلم، واهتم بالقواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذهب المالكي، وحتى عندما كتب في الثقافة الإسلامية لم يستطع الخروج فيها من عباءة الفقه فاحتلت الأحكام الفقهية جانباً واسعاً منه.
ولِندخلَ في المقصود من المقال نشيرُ إلى الآتي:
أولاً: كلنا نتفق على أن الاسلام نظام شامل لكل مناحي الحياة بما في ذلك السياسة.
ثانياً: وجمعينا نتفق أن هناك قضايا قطعيةً وردت في القرآن والسنة وهي ليست محل اختلاف أيضاً.
ثالثاً: المسائل الاجتهادية وهي القضايا التي تستجدّ في كل عصر، والقضايا التي تعددت فيها أقوال المجتهدين، لأن الأدلة فيها مجال نظر للمجتهدين، ولأن المجتهدين في هذه القضايا يختلفون في تقدير المصلحة بشأنها والنظر إلى مآلاتها، وهي من رحمة الشارع -سبحانه وتعالى- بخلقه ولحكمة بالغة، وهو ما يمثل إعجازاً تشريعياً لهذا الدين العظيم، جعله منفتحاً على كل الحضارات والثقافات، يستفيد ويأخذ منها ما لا يتصادم مع قواعد الدين المجمع عليها وأحكامه المقطوع بها.
رابعاً: الإصلاح في السياسة والقيام فيها بواجب دفع المفاسد وجلب المصالح المعتبرة شرعا ومراعاة مقاصد الشريعة والنظر إلى إلى المآلات ليس سبيله الفتوى، بل إن الفتوى لا تعدو كونها بياناً للحكم الشرعي دون الإلزام به، وقد لا يمكن أحياناً تطبيق الحكم الشرعي في الواقع لموانع كثيرة كالعجز وغلبة الغير وضعف السلطان ونحوها، وفي هذا الجانب بالتحديد يظهر الفرق فيمن يعاني السياسة ويمارسها وبين من يتكلم بعيدا عن معتركها، حيث يدرك الأول (من يتعاطى السياسة) مجالَ الإمكان في تقدير تحقيق المصلحة أو دفع المفسدة بالنسبة للواقع، بينما يكتفي الثاني (من يمارس الفتوى) بإطلاق الأحكام دون النظر إلى إمكان تحققها، ولذلك فرّق الفقهاء بين فتوى المفتي وتصرّف القاضي وتصرف الإمام الذي تندرج كثير من تصرفاته اليوم فيما يتعاطاه أهل السياسة، (وقد بيّن ذلك بجلاء الإمام القرافي في كتابه الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام).
أيضاً فإن الحكم الشرعي الذي قد تتضمنه الفتوى قد يكون غير متحقق بالواقع محلِّ الفتوى، أي أن تصوّر الواقع الذي تحكم بشأنه الفتوى تصور مغلوط وغير صحيح، ما ينتج عنه لبس وإرباك، وهذا الأمر غالبا ما يحدث فيما يتعلق بالقضايا السياسية التي فيها كثير من التفاصيل والتعقيدات التي تخفى عمّن يكون بعيدا عن دوائرها ولا يحتكّ بها.
خامساً: من يتتبع فتاوى الشيخ الغرياني في المسائل السياسية الاجتهادية يجدها غير منضبطة بنظام واضح من اعتبار للمصالح والمقاصد الشرعية، بل يناقض بعضها بعضاً أحياناً، ونجده يعلن في مواقف أنه لا يسكت عن بيان ما يراه حقاً، ويؤثر في مواقف الصمتَ رغم انتظار كثير من الناس لفتواه، ومن أمثلة الفتاوى التي أطلقها الشيخ دون أن تُعرف ضوابط المصلحة الشرعية فيها، وكان تصويره للواقع فيها تصويراً مجافياً للواقع، وبحسب ما يتصور هو وليس كما هو الواقع:
– حرّم الجلوس للحوار مع البرلمان وتيار الكرامة، وحرّم زيارة بعض المسؤولين لبعض الدول مثل فرنسا والإمارات وروسيا، وسكت عن زيارة مسؤولين آخرين في ظروف أخرى، بل برّرها بالمداراة.
– دعم هجوم اللواء السابع ترهونة على حكومة السراج.
– طالب في مرات كثيرة بنقل المعركة إلى بنغازي، دون اعتبار للمآلات أو نظر لمقاصد الشريعة فيما يتعلق بذلك.
– رفض أي تعامل مع الأمم المتحدة ووصف حكومة السراج بحكومة الفرقاطة، واعتبرها خائنة وحرض عليها، ثم أيّد حكومة الوحدة الوطنية رغم أنها ولدت من رحم الأمم المتحدة.
– اعتبر الحراك الذي تشهده مصراتة المعارض للحكومة غير جائز، واعتبر التحركات في هذا السياق من تدبير المخابرات المصرية دون دليل أو برهان على ذلك، وبنى عليه حكمه ورأيه، واعتبر أن الحكومة الحالية في طرابلس هي حائط الصدّ الذي يمنع مشروع حفتر من الوصول إلى غرب ليبيا، متجاهلاً أن هذه الحكومة من بدايتها كان فيها ممثلون لحفتر، وأن رئيسها أقرّ بتواصل ممثلين عنه مع ممثلين عن حفتر مرات ومرات، وأن رئيس المؤسسة الوطنية للنفط جاء بناء على تفاهم بين رئيس الحكومة الدبيبة وحفتر، وأن حفتر هو من اختاره كما أقرّ بذلك بن قدارة بنفسه، فلماذا يتجاهل الشيخ الغرياني كل هذا؟
متلازمة الصخيرات:
يمثل حوار الصخيرات قضية مركزية في الخطاب السياسي للشيخ الغرياني، ويعتبره نقطة التحول في المسار السياسي للبلاد، وقبل أن نشير إلى مستنده في رفض الحوار السياسي لا بد من التأكيد على أمر هام هو أن الحكم على أي قضية سياسية أو اجتماعية ينبغي أن يكون بناء ً على سياقاتها وظروفها التي حدثت فيها، وليس بناء على أمور انتهت واستجدّ غيرها، أو بادّعاء الحكمة بناء على أحداث تلتها.
ولنعد لرأي الشيخ الغرياني في حوار الصخيرات، حيث يعتبر المفتي من انخرط في هذا الحوار مفسداً في الأرض، وبنى موقفه الرافض على عدة أمور أهمها:
– أن هذا الاتفاق وضع ليبيا تحت نفوذ مجلس الأمن والأمم المتحدة، وفتح الباب على مصراعيه للتدخل الأجنبي، وهذا غير صحيح لأن ليبيا تحت البند السابع منذ 2011، وازدياد وتيرة التدخل الأجنبي أنتجه ضعف السلطات وتأزم الوضع السياسي في البلاد.
– حوار الصخيرات وما أنتجه من اتفاق بحسب الشيخ الغرياني جعلنا نفرط في المؤتمر الوطني صاحب الشرعية، وهذه مغالطة أخرى، فالكل يدرك أن المؤتمر الوطني فقدَ الاعتراف الدولي به، وأصبح في تلك الفترة الاعتراف الدولي لمجلس النواب وحكومة الثني، ورأينا عقيلة صالح يعتلي منصة الأمم المتحدة ممثلا لليبيا وعبد الله الثني في البيت الأبيض، وباتفاق الصخيرات رجع الاعتراف للسلطة الموجودة في طرابلس.
– يرى الشيخ الغرياني أن الصراع وقتها يمكن حسمه عسكريا في غرب ليبيا وشرقها، ولكنه يتجاهل ما حلّ بقوات فجر ليبيا في الوطية، وكيف انتهت عملية الشروق العسكرية.
سادساً: أين الإشكال؟
من حق الشيخ الغرياني وغيره أن يقول رأيه في أي أمر ويدعو لما هو مقتنع به، ومن حق مريديه ومن يقتنع به أن يتبعه ويوافقه على ذلك فلا مشكلة هنا.
الإشكال في استخدامه للفتوى باسم دار الإفتاء لتأييد رأيه الخاص في مسائل تخضع لتقديرات سياسية اجتهادية، تحكمها المصالح والمفاسد المترتبة عنها ولا نص شرعي يحرّمها.
وكما أن الطبيب مثلاً هو المختص بأن يأمر المريض بفطر رمضان ويقدر المصلحة والمفسدة في ذلك، فالاختصاص في تقدير المصالح في السياسة هو للأجسام المختصة بذلك وفقا لمؤسسات الدولة، كالبرلمانات والمجالس التشريعية والاستشارية والحكومات والوزارات وغيرها، وتدخّل دار الإفتاء باعتبارها من مؤسسات الدولة تعدٍّ على الاختصاصات وتغوّل على مؤسسات الدولة الأخرى من خلال سلطة دينية تريد دار الإفتاء توظيفها.
إن من حق الشيخ الغرياني ألّا تعجبه زيارة مسؤول ما لدولة ما، أو ألا يعجبه الحوار مع طرف ما، أو أن يتحفظ على جدوى رعاية الأمم المتحدة للحوار، أو يترجح عنده عدم جدوى اتفاق الصخيرات، أو أن هذه الحكومة أو تلك أقرب للصلاح من غيرها، ولكن ليس من حقه قطعاً أن يصدر فتوى تحريم أو تحليل في مثل هذه المسائل التي لا يعتبر فيها من أهل الذكر (الاختصاص).
وإن فعل ذلك -وهو في الحقيقة يفعل- فإنه سوف يقع في خلط كبير، ويتسبب في ضرر أكبر وانقسام أعمق، وهو يسيء أيضا بشكل غير مباشر للشريعة ويفتح الباب للاستهانة بأحكامها، ويعطي صورة غير صحيحة عنها وعن كيفية معالجتها القضايا السياسية المتغيرة بحكمة بالغة، حتى وإن لم يقصد ذلك.
إن عدم ممارسة الشيخ الغرياني للمستجدات في القضايا السياسية والتجارب المعاصرة فيها، وغيابه عن مجالات السياسة الشرعية في الواقع المعاش من حيث درء المفاسد وجلب المصالح واعتبار المآلات وتحقيق المقاصد الشرعية، كل هذا خلق إشكالاً في تناوله للشأن السياسي من حيث تصويره للواقع وإصداره الفتاوى بشأنه.
وهذا الإشكال يوشك أن يخلق حالة في المشهد السياسي الليبي تشبه ولاية الفقيه، وهو اجتهاد سياسي لدى الشيعة له مؤسساته وأدواته بغضّ النظر عن اختلافنا معهم، وفي تقديري أن سبب وقوع هذا الإشكال هو الاعتماد على الفقه التقليدي الذي كان يعتمد على دور الخليفة أو الحاكم ومكانته العلمية ومن يستعين بهم من العلماء في حسم كل القضايا الاجتهادية، ومع تغير الزمان وتطور الحياة وتشعبها وتعدد التخصصات ومؤسساتها فقد أصبح من المتعذر حصر هذه الاجتهادات في جهة واحدة، فما بالك بمن يريد أن يحصرها في دار الافتاء التي تدار بشخص واحد وحوله مريدون يدورون في فلكه ويأتمرون بأمره، إن في هذا حملاً للناس على أمر ضيّق قد جعل الله لهم فيه سعة ورحمة، والله الموفق وهو من وراء القصد.