هناك من يعتقد أن المناداة برفع دعم الوقود أو معالجته شىء جديد يحسب للمنادين به اليوم باعتباره يصب في اتجاه المحافظة على الموارد الاقتصادية ويعالج تشوها متأصلا في الاقتصاد الوطني، نقول إن أول من تنبه لمساوئ الدعم هم الاقتصاديون، منذ التسعينيات من القرن الماضي، وهم أول من نادي بإصلاحه إصلاحاً اقتصادياً لا يؤدي إلى الإضرار بفئة عريضة من المواطنين وتعريض مستوى معيشتهم للتدهور، لأسباب سوف نأتي على ذكرها لاحقاً، وهو الأمر الذي لم تتمكن من القيام به كل الحكومات السابقة إدراكًا منها لخطورته، وينادي الاقتصاديون بالرفع التدريجي للدعم والتعويض العادل للمواطنين من خلال توفير البديل النقدي (نقداً أو في شكل بطاقات إلكترونية مشحونة بقيمة الدعم) كما تفعل الدول الاخري، إذ يطالب الاقتصاديون بدعم من يستهلك المحروقات ممن يستحقه من الليبيين (أصحاب السيارات والمصانع) بدلًا من دعم سلعة المحروقات في حد ذاتها، الذي يجري تهريبها، لأن دعم السلعة يؤدي إلى الإفراط في الاستهلاك وعدم كفاءة المصروفات، ودعم المستهلك مطلوب لأن المستهلك سيفقد جزءا كبيرا مما كان يتمتع به من فائض (فائض المستهلك)، وأن رفع الدعم عن المحروقات سيؤدي إلى إعادة توزيع الدخل من المستهلك إلى الجهة الحكومية التي تستورد المحروقات، بمعنى أن الحكومة ستوفر قدرًا كبيراً من الأموال التي كانت تدفع دعماً لسلعة المحروقات المستوردة، وعلاوة على الانخفاض في فائض المستهلكين، فإن بيع المحروقات (البنزين والديزل) بالتكلفة الحقيقية سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف كل السلع والخدمات التي يدخل في إنتاجها أو تقديمها أي نوع من أنواع المحروقات التي يرفع عنه الدعم والأثر على التكاليف هو ليس كما يتصوره البعض، من خلال قيام الجهة التي تقوم بنقل السلعة من مكان إلى آخر أو سائق سيارة الأجرة الذي يتنقل داخل المدينة أو بين المدن، بحساب الزيادة في تكلفة نقل المواطن أو الكيلوجرام الواحد من السلعة بقسمة إجمالى التكلفة على عدد الكيلوات المنقولة وتحميل الزيادة في التكلفة على السعر المعتاد للنقل قبل رفع الدعم، وصولًا إلى تكلفة الكيلو الواحد، ومن ثم تحديد سعره وبيعه للمستهلك، بحيث تنخفض تكلفة النقل بزيادة وزن الكميات المنقولة.
هذا الأسلوب المثالي لا يجري تطبيقه على أرض الواقع في السوق الليبية، نظراً لأن أسعار النقل غير مقننة أصلًا، ولا تجري مراقبتها، (هل لاحظتم وجود عدادات في سيارات الأجرة؟ ) ويصاحب تقديم خدمة النقل الكتير من عدم الكفاءة والمبالغة في سعرها.
وفي الجزائر على سبيل المثال، عندما قامت الحكومة برفع سعر البنزين بنسبة 45% وسعر الديزل بنسبة 38% ارتفعت تكاليف النقل بنسبة تراوحت بين 20% إلى 50%؛ فما بالك إذا رُفعت أسعار البنزين والديزل في ليبيا بنسبة 200% أو أكثر، حينها سيكون الأثر التضخمي مؤكداً، ولنا أن نتذكر الارتفاع الكبير الذي طرأ على أسعار تذاكر السفر في شركات الطيران بعد فرض ضريبة على مبيعات النقد الأجنبي بنسبة 138 % خلال فترة حكومة الوفاق.
لذلك نؤكد دائماً على أهمية وضرورة دراسة أثر رفع الدعم على تكاليف الإنتاج وتكاليف النقل والأسعار دراسة اقتصادية معمقة، خصوصًا في ظل عدم وجود قرارات أو قانون ينظم تكلفة النقل أو حتي آلية للتسعير هذا فضلاً عن الأثر على مستوى معيشة الأفراد ذوي الدخل المحدود ولهذا فإن التقليل من أهمية أثر رفع الدعم عن المحروقات على الأسعار، من قبل البعض فيه تضليل لمتخذ القرار، وأثره السلبي على المواطن مؤكد.
وفي المقابل، يدفع المنادون بالرفع الكلي للدعم دفعة واحدة بأن المواطن سيتم تعويضه بالبديل النقدي ومن ثم لن يتأثر برفع الدعم، وقد غاب عن هؤلاء في الحالة الليبية أن نسبة كبيرة من المواطنين لا يتقاضون أكثر من الحد الأدنى للأجور، ونسبة أخرى منهم مرتباتهم متدنية بالقدر الذي لا يكفي لمواجهة تكلفة المعيشة، وهؤلاء هم أصلًا في حاجة إلى دعم كل ما يستهلكونه من سلع وخدمات، إضافة إلى ارتفاع نسبة الفقر في المجتمع، حيث يقدر متوسط مصاريف الأسرة المكونة من خمسة أشخاص بحوالي 3094.5 دينار شهرياً، وأن ما تصرفه الأسرة على المواد الغذائية يقدر بحوالي 1250 دينار شهريًا أي ما نسبته 40% من دخل الأسرة، وأن الطبقة الوسطى بالمجتمع قد تقلصت وتكاد تندثر.
وبالنظر لتدني مستويات الدخل فإن أي زيادة تطرأ على الدخل الشهري الذي يتحصل عليها رب الأسرة، في شكل بديل نقدى لرفع الدعم عن المحروقات، ستوجه للإنفاق على الغداء لسد فجوة الدخل التي تعاني منها معظم الأسر، (وهو ما يعبر عنه اقتصاديًا بارتفاع الميل الحدي للاستهلاك) ولن تتمكن الأسرة من تخصيص نسبة أكبر من إجمالى دخلها لمواجهة تكلفة النقل التي تشكل منها تكلفة المحروقات حوالي 49%, وأن أي زيادة في ما تخصصه الأسرة من دخلها للصرف على المحروقات بعد رفع الدعم سيكون على حساب ما تخصصه للصرف على الغذاء، الأمر الذي سيؤدي إلى تدهور مستوى معيشتها.
لذلك فإن أي بديل نقدي يدفع للمواطن مقابل رفع الدعم عن المحروقات سيشكل تعويضاً بسيطاً وغير كافٍ أو إضافةً محدودة لدخله لن تكون كافية لتمكينه من استعادة ما فقده من فائض وقوة شرائية، نتيجة لما حدث من تضخم في الأسعار بعد التخفيض الذي طرأ على سعر صرف الدينار الليبي، والتي سيضاف إليها التضخم الذي سينتج عن رفع أسعار المحروقات في الاقتصاد في حالة رفعها، ناهيك عن تمكنه من مواجهة الارتفاع في أسعار الوقود، في ظل عدم وجود وسائل نقل عامة أو بديلة، بالنظر لتدني مرونة الطلب على المحروقات باعتبارها سلعة ضرورية مثل الغذاء والدواء.
هذا التحليل يصب في اتجاه ضرورة مراجعة سياسات توزيع الدخل في الاقتصاد الليبي أولا، والحد من تضخم الإنفاق العام غير الإنتاجي، وأن الدعم ينبغي أن يكون لمستحقيه من الفئات الهشة وليس لكل الناس، حيث من المتوقع أن يؤدي رفع الدعم ودفع بديل نقدي غير كافٍ إلى استفادة أصحاب الدخول المرتفعة على حساب أصحاب الدخول المتدنية، ولا توجد دولة تدعم كل المواطنين بغض النظر عن مستويات دخلهم وأوضاعهم المعيشية بذريعة تحقيق العدالة.
هذا لا يعني أنه لا يجب التفكير في معالجة دعم المحروقات، أو غض النظر عن التشوه والهدر الذي يرتبه على الاقتصاد، ولكن هذا الآمر يتطلب أن يكون دخل المواطن ومن ثم الدخل الشهري للأسرة كافيًا في الأصل لمواجهة أعباء الحياة اليومية كما هو الحال في الدول التي رفعت الدعم مثل الإمارات والسعودية وقطر وغيرها من الدول الأخرى التي أقدمت على هذا الإجراء.
كما نؤكد أن معالجة دعم المحروقات يجب أن تكون في كل الأحوال بالتدريج للتخفيف من أثر الصدمة على المواطن، أي رفع سعر المحروقات بمبالغ بسيطة على مراحل، ولو أدّى الأمر للاستمرار أكثر من سنة واحدة، من جهة، وحتى تتمكن الحكومة من توفير البديل النقدي الكافي للمواطنين الذي سيكون نسبة أقل في ميزانية الإنفاق العام في هذه الحالة مقارنة بما يجب رصده من مبالغ ودفعه في حال الرفع الكلي للدعم دفعة واحدة، من جهة أخرى خصوصًا وأن الميزانية العامة للدولة تعاني عجزاً في الموارد من وقت لآخر لارتباطها بمصدر وحيد للدخل المتأتي من تصدير النفط والغاز، الذي يتسم بعدم الاستقرار، مما يهدد الاستدامة المالية للدولة.
النقطة الأخرى المهمة في إصلاح الدعم، هو ضرورة رصد مبلغ البديل النقدي الكافي الذي سيدفع للأسر في الميزانية العامة للدولة التي تصدر بقانون سنوياً، وبشكل شفاف إذ إنه في غياب العمل بميزانية موحدة للدولة، ورصد المبلغ المقرر للدعم، سيكون من غير المؤكد حصول الأسر على البديل النقدي المقرر شهرياً للتعويض عن رفع الدعم على المحروقات على أسس مستدامة.
كما أن قرار معالجة دعم المحروقات لا ينبغي أن يُتخذ، ولن يُتخذ، مع وجود حكومتين في ظل الانقسام السياسي، وفي غياب استراتيجية دائمة للحماية الاجتماعية، كما أنه في ظل حالة عدم الاستقرار والفساد المستشري، من غير المتوقع أن يتوقف تهريب الوقود الذي يتخذ ذريعةً لرفع الدعم عن المحروقات.
ونوصي دائمًا بأن تطبق السياسة المناسبة في الوقت المناسب وأن مجرد التفكير والإعلان عن تطبيق سياسة مثل سياسة رفع الدعم، التي تمس كل المواطنين، دون أن يكون الموضوع قد درس من جوانبه المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، سيؤدي حتماً إلى خلق حالة من الهلع وعدم اليقين، وردود الأفعال غير المتوقعة، وهو الأمر الذي ينعكس سلباً على مختلف نواحي الحياة، وقد يجهض أي تفكير لإصلاح الدعم في المستقبل.