يهتم أصحاب الأعمال والتجار وبعض المواطنين بالارتفاع الذي طرأ مؤخراً على سعر صرف الدولار في السوق السوداء للنقد الأجنبي، وصار كل منهم يفسر هذا الارتفاع بطريقته الخاصة، وقد قلّل بعضهم من أهميته بينما يبدي البعض الآخر تخوفا كبيرا من بداية جديدة لارتفاع سعر الدولار وأن الوضع ينذر بالمزيد من الارتفاع في سعره الذي لامس حاجز الستة دينارات.
ولكن في الواقع مسألة سعر الصرف وضرورة إصلاحه لم تُحل في أي وقت من الأوقات مند قيام المجلس الرئاسي بفرض ضريبة على مبيعات النقد الأجنبي في عام 2018 . فقد كانت كل الإجراءات التي اتخذت حيال مسألة سعر الصرف لم تتجاوز كونها مسكنات، وكانت بعيدة عن السياسة الاقتصادية الحصيفة التي تراعي خصوصية الاقتصاد الليبي، والأوضاع غير المستقرة التي تمر بها البلاد. وفي تقديري مادامت السوق السوداء تلعب دورًا في تمويل أي نشاط اقتصادي، ويلتجئ إليها التجار قبل الأفراد لتمويل احتياجاتهم من النقد الأجنبي، ويعتمدون أسعارها في تحديد أسعار السلع المستوردة، فهذا يعني أن سياسات سعر الصرف التي اتبعت والإجراءات التي يعمل في ظلها القطاع المصرفي كانت بعيدة عن الرشد وجانبها الصواب في الكتير من أوجهها ، وإن حدث انخفاض في هامش ربح المضاربين في هذه السوق.
لقد ضيّع القائمون على مؤسسات الدولة والحكومة المعنيّون بصنع القرار فرصة كبيرة خلال عامي 2017 – 2018 عندما أجمعت كل الأطراف ذات العلاقة على حزمة السياسات الاقتصادية، التي استهدفت تحقيق إصلاح اقتصادي حقيقي في ذلك الوقت، من خلال تطبيق السياسات التي تضمنها برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الذي أعدته لجنة فنية من الخبراء، عرفت بلجنة العشرين، وقام بإثرائه عدد من أعضاء مجلس النواب ومجلس الدولة، من ذوي الاختصاص، في ذلك الوقت. وللتاريخ فإن الذي عرقل تطبيق البرنامج كانت الحكومة العاملة في ذلك الوقت، والتي تلكأت في تقييد السياسات المصاحبة الموجهة لإصلاح المالية العامة ودعم المحروقات، والتي كان مصرف ليبيا المركزي يعتبرها شرطًا ضروريا للمضي قدماً في إصلاح سعر الصرف وصولا إلى سعر صرف توازني للدينار الليبي في مواجهة العملات الاجنبية؛ فلا تم إصلاح سعر الصرف ولا طبقت الإصلاحات الأخرى التي تضمنها البرنامج، ومع ذلك فقد نجحت الحكومة في تمرير سياسات أفضت الى توفير التمويل اللازم للإنفاق العام، في استخدام خاطئ لسياسة سعر الصرف، وكان ذلك في البداية من خلال فرض ضريبة على سعر الصرف عام 2018، تم إجراء تخفيض رسمي لسعر صرف الدينار الليبي عام 2021.
وأصبح المصرف المركزي في وضع صعب عندما فقد المرونة الكافية في معالجة العجز في ميزان المدفوعات وتوفير السيولة اللازمة للحكومة، بعد التخفيض الأخير الذي قام به في القيمة التعادلية للدينار الليبي بوحدات حقوق السحب الخاصة، وإقرار سعر يبتعد كثيراً عن السعر التوازني المنشود، وربما اضطر مجددا لفرض قيود كمية على النقد الأجنبي مما سيزيد المشهد تعقيداً وخلال هذه الفترة لم تنخفض الأسعار في السوق، كما يروج لذلك البعض، ولم ينتعش الاقتصاد الليبي، بل شهد ركودًا تضخمياً، ينكره البعض عززته جائحة كورونا والحرب الأوكرانية الروسية، ولم تحل مشكلة السيولة حلاً جذرياً، باستثناء ما تمتع به التجّار من مرونة وأريحية في فتح الاعتمادات، ووصل الإنفاق العام إلى أرقام قياسية، بل إن الدين العام تزايد وتراكم، وشهد ميزان المدفوعات عجزاً لعدم كفاية إيرادات النقد الأجنبي التي تورد لمصرف ليبيا المركزي في مواجهة مصروفاته، وهاهي السوق السوداء للنقد الاجنبي تنشط مجدداً، وبيّن تقرير صادر عن البنك الدولي، رغم تحفظنا على الكثير مما يعرضه من مؤشرات حول الاقتصاد الليبي، أن متوسط دخل الفرد قد شهد انخفاضا فيما بين عامي 2011 و2020 بنسبة 50%، هذه المؤشرات مجتمعة تشير إلى أنّ كل الإجراءات الاقتصادية التي اتبعت خلال الفترة لم تكن موفقة، وأنه لا خيار أمام السلطات إلا اللجوء إلى تطبيق السياسات التي أوصى بها برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي، المنوه عنه، والذي يتضمن سياسات نقدية ومالية وتجارية متكاملة وفقاً لمصفوفة تتضمن أولويات في التطبيق وإطار زمني للتنفيذ، وسيستمر الاقتصاد الليبي يواجه الصدمات، وحالة عدم الاستقرار، طالما ظّلت إيرادات النفط المصدر الوحيد للدخل، واستمرت مؤسسات الدولة المعنية في حالة إنكار لضرورات إعادة الهيكلة والإصلاح الاقتصادي الشامل، واكتفت بجرعات من المسكنات، ناهيك عن الصراع والانقسام القائم بينها، في ظل وجود حكومتين.
المصدر : الصفحة الشخصية للدكتور محمد أبوسنينة