بعيداً عن خلفيات من ينظمون الاحتجاج الحاصلة اليوم في الشارع، وبغض النظر عما صاحب كثيراً منها من اعتداء على الممتلكات العامة وأعمال تخريب قد تكون اختراقاً لها من قبل مخربين، فلا يمكن أبدا إنكار الحالة المتردية والوضع المزري الذي وصلت إليه ليبيا، والذي جعل العيش فيها نوعاً من المعاناة المُرّة التي تنتجها أزمات متفاقمة لا تستثني أحداً من سكانها وإن تفاضلوا في درجة التردي في الخدمات والسوء في الظروف، ويبقى الجميع أسيراً في هذه البيئة الخانقة بكل مآسيها.
هذه الاحتجاجات إلى الآن مهما اتسعت رقعتها فإنها لن تتجاوز كونها ردة فعل على الأوضاع المزرية، ولن تكون إلا حجة للسياسيين للمزايدة على بعضهم، وقد بدأنا نرى بوادر هذا الأمر، والسبب في ذلك أن هذه الاحتجاجات غير ناضجة سياسياً ولا تقدم الطرح السياسي المنطقي والمقبول لتحقيق أهدافها، وتعويلها في مطالبها على طرف ضعيف وهو إما المجلس الرئاسي أو المجلس الأعلى للقضاء، كما أن المجموعات المسلحة التي تمثل واجهة لشبكة معقدة من المصالح لن تسمح لهذه الاحتجاجات بأن تمثل تهديداً لمصالحها وهو ما يعني احتواءها أو الفتك بها، أخيرا فإن هذه الاحتجاجات مبنية على الإقصاء لأطراف سياسية تمرست في ساحة السياسة وأصبحت خبيرة في المناورة للاستمرار والبقاء، وهو ما يعني أنها ستسعى بالنفَس الطويل لاحتواء هذه الاحتجاجات واختراقها ومحاولة تجييرها لصالحها.
إن ما يجب أن ننتبه له جميعا، خاصة جيل الشباب الذين تفتح وعيهم على ثورة فبراير هو الفرق اليوم بين ثورة فبراير واحتجاجات يوليو الجاري التي يحلو للبعض أن يعتبرها ثورة، ففبراير فعلاً كانت هَبّة شعبية ضد نظام له رأس وقيادة مارست الاستبداد لأكثر من أربعة عقود، وأما هذه الاحتجاجات فهي نتيجة لفشل سياسي ومجتمعي أنتجه غياب الوعي والخبرة في التعامل مع التغيير الذي أنتجته فبراير، وأصبح الجميع مشاركاً بقدَرٍ ما -وكلٌّ بحسبه- في هذه الواقع المليء بالعنف والفساد والكراهية، وتغيير الشخوص وكنس الأجسام السياسية وإقرار الدساتير وإجراء الانتخابات، ما لم يصاحبه الوعي بأن التعايش مع الآخر وعدم إقصائه وإدارة الخلاف بعيداً عن العنف واحترام الأفكار والآراء دون تخوين وتصنيف هو السبيل الوحيد لإنقاذ أنفسنا فإننا سنبقى أسرى الفشل والأوضاع المزرية والحال المتردية.