إن اتخاذ موقف رافض أو داعم لخارطة الطريق الجديدة والتعديل الدستوري الثاني عشر الذي أصدره مجلس النواب بالمشاركة مع المجلس الأعلى للدولة يتطلب المرور على المحطات السابقة والسياقات التي صنعتها لنعرف مدى الجدوى أو الفائدة من هذا التطور الأخير، ولعل البداية من الاتفاق السياسي الليبي الموقع في مدينة الصخيرات بتاريخ 17 / 12 / 2015م، وصولا إلى الاتفاق السياسي الليبي الموقع في جنيف فبراير 2021م.
فقد كان الهدف من الحوار السياسي الليبي المنعقد خلال الفترة 2014 – 2015 والذي أنتج الاتفاق السياسي الليبي الموقع في مدينة الصخيرات بتاريخ 17 ديسمبر 2015 هو توحيد البلاد بعد الانقسام السياسي والمؤسساتي والاجتماعي وانقسام السلطات التشريعية والتنفيذية والمؤسسات العسكرية، وإعادة بناء جسم تشريعي يتولى مهام السلطة التشريعية، بعد أن فقد المؤتمر الوطني العام شرعيته نتيجة قرار لجنة فبراير وفقدان مجلس النواب شرعيته نتيجة صدور حكم المحكمة العليا ببطلان مخرجات لجنة فبراير واعتبار مجلس النواب الليبي المنتخب في يونيو 2014 غير قانوني.
كما هدف الاتفاق السياسي إلى إيقاف الاقتتال في مختلف مناطق البلاد، وتشكيل حكومة توافقية واحدة تمثل السلطة التنفيذية الوحيدة في البلاد يكون مقرها الرئيس طرابلس وتستطيع إدارة البلاد كدولة واحدة موحدة وأن تبسط سيطرتها على كامل البلاد.
ولعل أهم ملامح الاتفاق السياسي في الصخيرات كان مقاسمة السلطة التشريعية بين طرفي النزاع السياسي (مجلس النواب – المجلس الأعلى للدولة)؛ حتى لا يكون هناك أي انفراد بالسلطة التشريعية وإصدار القوانين والتشريعات الهامة من طرف واحد.
وكان من أبرز التحديات التي واجهت هذا الاتفاق توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية، وفك وتأهيل ودمج التشكيلات المسلحة في المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية بكافة مناطق البلاد، وهو التحدي الذي لازال قائما.
وحاول المتحاورون في الصخيرات من خلال الاتفاق السياسي أن تعمل حكومة الوفاق على توفير مستوى مناسب من الأمن والاستقرار بكامل ربوع البلاد، وتهيئة الظروف الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والخدماتية لتحقيق الاستحقاقات الدستورية المتمثلة في الاستفتاء على الدستور وتأسيس المؤسسات الدستورية وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
وأن يكون من أولوياتها مكافحة الإرهاب المتمثل في (داعش، القاعدة، أنصار الشريعة)، والحد من الهجرة غير الشرعية، وإطلاق برنامج واقعي لإنجاز المصالحة الوطنية.
هذا في المجمل ما كان يهدف إليه الاتفاق السياسي الناتج عن حوار الصخيرات، وعلى الرغم من عدم الاعتراف به من قبل مجلس النواب الليبي وبعض الدول الإقليمية فإنه حقق جزءاً مهماً من أهدافه لعل أبرزها تشكيل حكومة الوفاق الوطني، التي أصبحت السلطة التنفيذية الشرعية الوحيدة المعترف بها محلياً وإقليميا و دولياً.، واستطاعت هذه الحكومة كسب الدعم الدولي والإقليمي للقضاء على أكبر تنظيم إرهابي (تنظيم داعش) بعد حرب البنيان المرصوص.
أيضا توفر خلال عهدة حكومة الوفاق مستوى مناسب من الاستقرار الأمني في بعض مناطق البلاد وخاصة المنطقة الغربية، استمر إنتاج وتصدير النفط والغاز وبالتالي حدث تحسن في المجال الاقتصادي.
كما كان لحكومة الوفاق دور هام في المحافظة على استمرار المسار السياسي وحماية جزء من مكاسب ثورة فبراير، وهو صون مدنية الدولة، وحصولها على الدعم الدولي للشرعية في التصدي للعدوان على العاصمة طرابلس، واستطاعت من خلال شرعيتها إبرام الاتفاقيات الدولية والإقليمية الأمنية والاقتصادية، التي صنعت توازنا حقيقيا في موازين القوى على الأرض، وهو ما أدى إلى إيقاف الحرب وتوفير مستوى مقبول من الاستقرار لاستئناف العملية السياسية.
ومع ما حققه الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات فإن تطور حالة الصراع وما شاب مرحلة تنفيذه من أمور أبرزها: ضعف أداء حكومة الوفاق الوطني على المستوى الأمني والاقتصادي والخدماتي، وعلى مستوى المصالحة الوطنية، الأمر الذي أدى إلى امتعاض من قبل الكثير من الأطراف السياسية، إضافة إلى تعنت مجلس النواب وامتناعه عن الاعتراف بالاتفاق السياسي وتضمينه في الإعلان الدستوري وعدم تعامله مع المجلس الأعلى للدولة كشريك حقيقي في السلطة التشريعية، مع سيطرة بعض الدول الإقليمية على قرار وعمل وتوجهات مجلس النواب.
وكان لاستمرار مشروع العسكر في السيطرة على المنطقة الشرقية والجنوبية وعلى قرارت وتوجهات مجلس النواب وعلى المؤسسات العسكرية الأمنية الأثر الواضح في عدم تنفيذ الاتفاق السياسي بشكل تام، مع استمرار وجود ونمو التشكيلات المسلحة غير التابعة للمؤسسات الرسمية مما انعكس على ضعف سيطرة حكومة الوفاق وأبرز هشاشة الوضع الأمني على مستوى البلاد والمنطقة الجنوبية خاصة.
كل هذا أدى إلى مطالبات محلية وإقليمية ودولية بضرورة البدء في حوار سياسي جديد يجنب البلاد الحروب والاقتتال ويهدف إلى الوصول إلى اتفاق سياسي جديد تتوافق عليه الاجسام التشريعية (مجلس النواب و المجلس الأعلى للدولة) وكذلك الأطراف السياسية وأطراف الصراع الرئيسية، يتم من خلاله رسم خارطة طريق للمرحلة القادمة واختيار حكومة وطنية جديدة تتولى تهيئة الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية والخدماتية والاجتماعية للوصول إلى إجراء الانتخابات العامة (الرئاسية والبرلمانية خلال شهر ديسمبر 2021).
فبتاريخ 5 فبراير 2021 م، وفي مدينة جنيف السويسرية تم الوصول إلى اتفاق سياسي من خلال لجنة الـ75، التي تضم في عضويتها أعضاء ممثلين عن الدوائر الانتخابية بمجلسي النواب والأعلى للدولة وممثلين عن التوجهات السياسية المختلفة بالإضافة إلى تمثيل متنوع للمكونات الليبية المختلفة.
كما تم اختيار حكومة جديدة سميت بحكومة الوحدة الوطنية برئاسة السيد عبدالحميد الدبية وكلفت بمهمة رئيسية، هي تهيئة الظروف لإنجاز الاستحقاق الانتخابي في 24 ديسمبر 2021 وعدد من المهام الأخرى ذات العلاقة بتحسين مستوى الخدمات العامة، وتوفير مستوى مناسب من الأمن والاستقرار و تحسين في المستوى الاقتصادي، والبدء في مصالحة وطنية شاملة تؤدي إلى إجراء الانتخابات بشكل شفاف وعادل.
إلا أن الفشل الكبير لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة السيد عبد الحميد الدبيبة في المهام الموكلة إليها وإفشالها للعملية الانتخابية المقررة في 24 ديسمبر 2021 أدى إلى إقدام مجلس النواب على سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية.
وبعد فشل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية شكل مجلس النواب لجنة لرسم خارطة طريق للمرحلة القادمة تنتهي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.
وبعد مشاورات واجتماعات ولقاءات بين لجنة خارطة الطريق المشكلة من قبل مجلس النواب والعديد من الكيانات السياسية والمجتمعية والحكومية ومع المجلس الأعلى للدولة ومع المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، تم الاتفاق على خارطة طريق توافقية للمرحلة القادمة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لأول مرة منذ أكثر من سبع سنوات أهم معالمها:
o التوافق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
o إجراء تعديل دستوري يتضمن خارطة الطريق بالتوافق على نصوص بنوده بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
o إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أجل لايتجاوز الـ14 شهرا من تاريخ اعتماد الإعلان الدستوري الجديد.
o انتخاب رئيس حكومة جديدة بالمشاركة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، حيث تم اشتراط حصول المترشح لمنصب رئيس الوزراء على 40 تزكية غير متكررة من أعضاء مجلس النواب و30 تزكية غير متكررة من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، على أن يتم التصويت على انتخاب رئيس مجلس الوزراء من خلال جلسة مكتملة النصاب القانوني لمجلس النواب.
التعديل الدستوري الثاني عشر:
منذ بداية العام 2015، وبعد التوقيع على الاتفاق السياسي الليبي الموقع في مدينة الصخيرات المغربية بتاريخ 17 ديسمبر 2014 م، والجميع يسعى إلى أن يكون هناك توافق ليبي ليبي بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وبعد كل الصراعات السياسية وبعد كل الحروب والاقتتال تبين جليا لجميع الليبيين وعلى رأسهم الأجسام السياسية أنه لا مناص من التوافق السياسي بين أطراف الصراع للوصول إلى الأمن والاستقرار وتحسين المستوى المعيشي لليبيين، وتهيئة الظروف لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والولوج إلى الدولة المدنية الديمقراطية، ومن هذا المنطلق نجحت اللجنة المشتركة بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب في الوصول إلى صيغة توافقية تجعلهما شريكين حقيقيين في السلطة التشريعية، وقد تم دسترة هذه الصيغة من خلال تضمينها في تعديل دستوري أقره وصوت عليه بالإجماع مجلس النواب الليبي (التعديل الدستوري الثاني عشر)
أهمية التعديل الدستوري الثاني عشر:
* من خلاله تم تضمين الاتفاق السياسي الليبي الموقع في مدينة الصخيرات المغربية بتاريخ 17 ديسمبر 2015 للاعلان الدستوري الموقع في 3 أغسطس 2011 م والذي بموجبه أصبحت نصوص بنود الاتفاق السياسي الليبي نصوصا دستورية ملزمة للجميع.
* أنه يرسم خارطة طريق واضحة المعالم والمدد تنتهي بإجراء انتخابات دستورية في مدة لا تتجاوز ـ14 شهراً وفق دستور ليبي يتم الاستفتاء عليه أو وفق قاعدة دستورية يتم التوافق عليها بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب.
* دسترة الشراكة الكاملة في السلطة التشريعية بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، ودسترة المهام والمسؤليات والاختصاصات للمجلسين طبقا للاتفاق السياسي الليبي الذي تم تضمينه للإعلان الدستوري من خلال هذا التعديل.
* أصبح إجراء أي تعديل في مشروع الدستور يجب أن يكون بالتوافق ما بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
* دسترة وجوب التوافق بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب في صياغة واعتماد إصدار القاعدة الدستورية.
* دسترة وجوب التوافق بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب في إصدار قوانين الانتخابات وإصدار قوانين الاستفتاء على الدستور.
* أصبح المجلس الأعلى للدولة شريكا في اختيار أي رئيس حكومة جديد من خلال شرط حصول المترشح لمنصب رئاسة الوزراء على 30 تزكية غير متكررة من أعضاء المجلس الأعلى للدولة.
* التعديل الدستوري ضمن الاتفاق السياسي الليبي للإعلان الدستوري وبالتالي أصبح المجلس الأعلى للدولة ومن الناحية الدستورية شريك لمجلس النواب في:
▪ اختيار شاغلي المناصب السيادية.
▪ في سحب الثقة من الحكومة.
▪ في اختيار شاغلي منصب رئيس المجلس الرئاسي ونوابه في حالة خلوه.
ومن خلال ما أسلفنا يتضح جليا أننا وصلنا إلى ما كنا نبتغيه بالتوافق الليبي الليبي (توافق مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة) من أجل الوطن والمواطن، ومن أجل الأمن والاستقرار، ومن أجل المصالحة الوطنية، ومن أجل تنمية البلاد وتطويرها، ومن أجل الولوج في الدولة الليبية الديمقراطية المستقرة، وهذا التوافق بالإضافة إلى اختيار الحكومة الليبية التوافقية الجديدة برئاسة السيد فتحي باشاغا سيكون العامل الأساسي لإجراء المصالحة الوطنية الشاملة، ولم شمل البلاد وبسط سيطرة السلطة التنفيذية على كامل ربوع البلاد، وتهيئة الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية والخدماتية والاجتماعية؛ لتحقيق آمال الليبيين في إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وفق قاعدة دستورية أو دستور دائم يتم الاستفتاء عليه من قبل الليبيين.