بالنظر إلى كلمات (الشرقية الغربية ومشروع) تحضرنا الذاكرة إلى ما حدث بعد توزيع تركة هتلر في يالطا في شبه جزيرة القرم بين ستالين روزفلت وتشرتشل فبراير 1945 وما أفضى إليه المؤتمر وبالتركيز على مصير ألمانيا تحديدا.
قُسمت ألمانيا من قلب العاصمة برلين إلى ألمانيا شرقية تحت رعاية الاتحاد السوفيتي وبزعامة ويلهلم بييك الشيوعي الألماني، وألمانيا غربية تحت رعاية الغرب وبزعامة تيودور هويس، بصرف النظر عن كون ألمانيا الشرقية اكتست بثوب الشيوعية وعانت من القمع والفقر والتخلف وعن كون ألمانيا الغربية تتمتع بمستوى معيشة أعلى من شقيقتها وبسقف حريات وإبداع أكبر من الشرقية، إلا أن ألمانيا بقيت ساحة تصفية حسابات بين قطبي العالم الذي ما لبث أن بدأت معالم التنازع تظهر بينهما بعد القضاء على هتلر عدوهما المشترك.
سيطرة السوفييت على قسم ألمانيا الشرقي وزراعة وتمدد الفكر الشيوعي بدأت تزعج الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت الممالك التي ترعاها إما أن تُهدد بقوة أو أنها تهاوت فعلا، أمام المد الشيوعي الشرقي الذي كان لابد أن يتوقف وأن تكون البداية من ألمانيا، انطلاقا من عودتها لدولة واحدة غير مقسمة ومرورا بإيقاف تمدد المد الشيوعي وانتهاء بإسقاط جدار برلين أحد رموز الشيوعية نوفمبر 1989.
كانت الفكرة بما أطلقه الجنرال جورج مارشال أو ما اصطلح على تسميته مشروع مارشال الذي يهدف إلى إعادة إعمار أوروبا التي دمرتها الحرب لغرض استقطاب الدول الأوروبية للحلف الغربي للحد من مد الشيوعية وإحراج السوفييت الذين رفضوا المشروع جملةََ وتفصيلا، استمر تنفيذ مشروع مارشال واستمرت الحرب الباردة حتى انتصرت الولايات المتحدة وتهاوى الاتحاد السوفيتي.
في ليبيا فرضت الأحداث واقعا غير متوقع فأصبحت ولأول مرة في التاريخ ليبيا منطقة نفوذ روسي بعدما كانت منطقة نفوذ أمريكي بريطاني فرنسي بعد اجتماع يالطا المشهور، رغبة الأمريكان في إبعاد الروس عبر حليفيها التاريخيين مصر وتركيا تبدو واضحة، فالأولى دعمهم لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وحصولهم على رئيس منتخب يقوى بقوة الشارع وبدعم الشعب بعد توقيع وقف إطلاق النار بين الشرق والغرب، وآخرها هو تحقيق توافق بين الشرق والغرب الليبي بدعم مصري تركي برعاية أمريكية تجلي المستوطنين الجدد في ليبيا.
تقهقر فرنسا في أفريقيا وانسحابها من مالي وتمدد الروس في مناطق ذات نفوذ فرنسي خالص بين تغير الخارطة الجيوسياسية على الأرض، ومع تعقد المشهد في أوكرانيا وتورط بوتين هناك يبدو أن الدور الأمريكي سيتصاعد لاحتواء إيران وتقليم أظافر الروس وتحييد الصين والتقدم نحو تحقيق تقدم في ليبيا.
ليبيا الشرقية وليبيا الغربية حقيقة مطلقة، فجدار برلين هو غرب سرت الذي عُد خطا أحمر يُمنع تجاوزه من هذا الطرف والعكس صحيح يُطبق على الطرف الآخر، فالنفط الليبي الثمين والغاز القريب من أوروبا والموقع الاستراتيجي يمنع الأمريكان من إغفال أعينهم عن ليبيا أو السماح بأن يكون مجال الطاقة في ليبيا تحت أيدي موسكو أو أحد أذرعها.
مشروع “نورلاند” الذي بمفاجأة غير متوقعة كانت بتمديد مدته من قبل بايدين رغم أن سلفه الجمهوري ترامب هو من اعتمده سفيرا ومبعوثا لليبيا، بعدها قدم كامل الدعم لحكومة الوحدة الوطنية وتدخل لمنحها الثقة من مجلس النواب في جلسته المشهورة في سرت مارس 2021 بعد بوادر انقسام في مجلس النواب قد تعرقل سير العملية السياسية الهشة، نورلاند قاد في البداية الحراك الداعم للانتخابات الرئاسية في ليبيا، التي فشلت بعدها لعدة أسباب منها تدخل أمريكي غير معلن؛ بسبب ترشح بعض الشخصيات وصعوبة إجراء الانتخابات بعد فشل الحكومة في بسط سيطرتها على كافة أرجاء البلاد.
تغير المعطيات والواقع فرض لعبة سياسية جديدة عرابها الولايات المتحدة وأدواتها مصر وتركيا والهدف واضح، يبدأ بآلية توحيد ليبيا وإحداث تقارب بين الشرق والغرب لإسقاط جدار برلين الليبي، وينتهي بالتأسيس لدولة فاعلة ومنضبطة جنوبي المتوسط تنتهي فيها الفوضى.
إعادة توحيد ألمانيا لم يكن بالأمر السهل إذ أنه شكل عبئا ثقيلا على الاقتصاد الألماني وأبطأ من نموها الاقتصادي في السنوات التالية. وتقدر كلفة إعادة التوحيد بما يزيد عن 1.5 ترليون يورو وهو ما يزيد عن مجمل الديون الوطنية على ألمانيا.
لكن المكاسب كانت أكبر فاستوطنت فيها القوات الأمريكية وانضمت لحلف الناتو وأصبحت اليوم تقود الاقتصاد الأوروبي وحليفا يمكن التعويل عليه بالنسبة للأمريكان أمام الغطرسة الفرنسية التي ترى نفسها ندا للولايات المتحدة، وإعادة توحيد ليبيا لن يكون بتلك السهولة أيضاً.
مما لا شك فيه أن إعادة توحيد ليبيا عن طريق حكومة باشاغا أمر ليس بالسهل أو البسيط فالسيناريو الألماني يقابله سيناريو لبناني قد يؤدي بالبلاد إلى الانزلاق إلى كتل بقيادة زعامات ممولة ومدعومة من الخارج، ويعتمد تحقيق أحد السيناريوهين على الإرادة الوطنية ومدى الوعي والتعقل وحجم المسؤولية ورغبة الفاعلين في إنهاء حالة الاستقطاب الشعبي ومنها إنهاء التدخل السلبي من بعض الدول المنخرطة في الأزمة الليبية، وإزالة الحدود بين الإقليمين وإعادة ليبيا إلى نمط دولة واحدة وإن تشاركت الأطراف في حكمها، سعي نورلاند الحثيث لإيجاد مخرج للأزمة غرب ليبيا بين حكومة باشاغا والدبيبة بدا واضحا لتحقيق الاستقرار وتنظيم الوضع الأمني والعسكري منها إلى تحقيق أهداف الولايات المتحدة الاستراتيجية التي تتوافق مع الأهداف الليبية في كثير من المناطق.