in

انفاق الحكومة من خارج الميزانية هل هو كارثة مالية أم اجتهاد خاطئ ؟

خلال الأشهر القليلة الماضية من عمر حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة صدرت عشرات القرارات التي تهدر المال العام بالمليارات وليس بالملايين أو بمئات الملايين بطريقة لم يسبقها عليها احد.

فاذا نظرنا إلى هذه القرارات من الناحية القانونية نتساءل هل هذه القرارات موافقة للقوانين المالية ؟ وهل يجوز في عهد حكومة انتقالية مؤقتة لفترة محدودة ومسحوبة منها الثقة أن تبعثر وتهدر المال العام بهذه الصورة ..

وللتوضيح ننقل احد هذه ا لقرارات كنموذج لعشرات القرارات التي صدرت بنفس الصياغة : مجلس الوزراء بعد الاطلاع • على الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 3 أغسطس 2011 م، وتعديلاته.• وعلى الاتفاق السياسي الليبي الموقع بتاريخ 17 ديسمبر 2015 م ميلادي.• وعلى مخرجات ملتقى الحوار الليبي المنعقد بتاريخ 9 نوفمبر/2020 م.• وعلى قانون النظام المالي للدولة ولائحة الميزانية والحسابات والمخازن وتعديلاتهما.• وعلى القانون رقم 12 لسنة 2010 م، بشأن إصدار قانون علاقات العمل ولائحته التنفيذية.• وعلى ما قرره مجلس النواب في جلسته المنعقدة بتاريخ 10 مارس 2021 م، في مدينة سرت بشأن منح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية.• وعلى ما قرره مجلس الوزراء في اجتماعه العادي الثالث المؤرخ في 2021/04/27 م، بتفويض رئيسه في إصدار بعض القرارات.• وعلى كتاب السيد وزير الدولة لشؤون رئيس الحكومة ومجلس الوزراء رقم 7070 المؤرخ 2021/07/11 م.

قرر مادة 1 يخصص مبلغ مالي قدره 10,558,500 عشرة ملايين وخمسمائة وثمانية وخمسون ألفا وخمسمائة دينار لصالح شركة الخدمات العامة طرابلس، وذلك خصما من الباب الخامس نفقات الطوارئ “، لتنفيذ الأعمال المطلوبة من بلدية طرابلس المركز وذلك لتهيئة موقع مقر باب العزيزية لإنشاء منتزه عائلي بالإضافة إلى الأعمال الأخرى المطلوبة من البلدية ))

هذه الصياغة التي صدرت بها عشرات القرارات المالية مع اختلاف القيم من عشرات الملايين الى المليارات ويلاحظ على هذه القرارات ملاحظتان :

الملاحظة الأولى : انه أسس قراراته مستندا على مبدأ الخصم من (( الباب الخامس نفقات الطواري )) وتقتضي أصول الصياغة الفنية أن يذكر القانون الذي يوجد به (( الباب الخامس نفقات طوارئ )) ، ويفهم من ذلك انه يوجد قانون يعطي الحق لمجلس الوزراء في الإنفاق غير المحدود من (( الباب الخامس باب نفقات الطوارئ )) وان الميزانية المعتمدة والصادرة بقانون قد خصصت ميزانية لهذا الباب .

والمفاجأة انه بعد مراجعتي للتشريعات المالية لم اجد في أي منها (( باب خامس – نفقات الطوارئ)) بمعنى أن هذا الأساس وهمي الهدف منه التمويه بشرعية هذه القرارات وللمزيد من التوضيح نقول انه توجد ثلاثة تشريعات مالية تنظم المالية العامة للدولة

الأول قانون النظام المالي للدولة ، والثاني لائحة الحاسبات والميزانية والمخازن ، والثالث قانون الميزانية . ولا يوجد غيرها أي تشريع ينظم المال العام .

فاذا ذهبنا الى قانون النظام المالي للدولة فإن الباب الخامس لا علاقة له بميزانية الطوارئ فهو يتضمن مادتين تتعلقان بالمستندات المالية .

أما لائحة الحسابات والميزانية والمخازن فإن الباب الخامس عنوانه – في المستندات ذات القيمة وما في حكمها ولا علاقة له بميزانية الطوارئ فاذا ذهبنا الى القانون رقم 3 لسنة 2020 بشأن اعتماد الميزانية العامة للدولة فهو قانون ليس منظما في أبواب بل مواد متسلسلة ، فاذا ذهبنا الى المادة ( 5 ) منه نجدها تنص (على كافة الجهات توريد حصة الخزانة العامة في الأرباح والرسوم المقررة في المواعيد المحددة قانونا ولوزارة المالية والتخطيط اتخاذ كافة الإجراءات التي تكفل التحقق من المبالغ المستحقة وتحصيله )

أي انه لا علاقة لها بميزانية الطوارئ وبما أن ميزانية سنة 2021 لم يتم اعتمادها من قبل مجلس النواب فإنه يتعين تطبيق 1/12 من ميزانية العام الماضي في كل شهر وفقا لأحكام قانون النظام المالي للدولة حيث نصت المادة ( منه على ((إذا لم يتم إقرار الميزانية الجديدة قبل بدء السنة المالية تفتح بمرسوم ملكي اعتمادات شهرية مؤقتة على أساس جزء من اثنى عشر من اعتمادات السنة السابقة. ))

اما اطلاق يد مجلس الوزراء في الإنفاق من خارج الميزانية فهو يخالف قانون النظام المالي للدولة حيث نصت المادة (11) منه على ((كل مصروف غير وارد بالميزانية أو زائد على التقديرات الواردة بها يجب أن يأذن به مجلس قيادة الثورة واستئذانه كذلك كلما أريد نقل مبلغ من باب إلى أخر من أبواب الميزانية.

ويجوز فيما بين أدوار انعقاد المجلس وفي فترة حل مجلس النواب تقرير مصروفات جديدة غير واردة بالميزانية ونقل مبلغ من باب إلى أخر من أبواب الميزانية إذا كان ذلك لضرورة مستعجلة وعلى شرط أن يكون بمراسيم في ميعاد لا يتجاوز الشهر في اجتماعه التالي. ))

اما الميزانية الاستثنائية أي لموجهة الطوارئ فهي تصدر أيضا بقانون حيث نصت المادة (13) على (( 1- يجوز في حالة الضرورة وضع مشروع ميزانية استثنائية لأكثر من سنة تتضمن موارد ونفقات استثنائية.

2- تتقدم الوزارات بطلبات فتح الاعتمادات الإضافية ومبرراتها إلى وزير المالية لدراستها وعرضها على مجلس الوزراء.

3- تتبع في إعداد الميزانيات الاستثنائية والاعتمادات الإضافية وإقرارها القواعد المتبعة في شأن الميزانية العامة. ))

أما حساب الطوارئ فقد نصت عليه المادة (15) حيث جاء فيها ((تكون للحكومة ست حسابات منفصلة هي:- ……. 6- حساب الطوارئ : وتودع به الأموال التي تخصص لمواجهة الحالات الطارئة.))

أي التي تخصص في الميزانية العامة للدولة وهو ما نصت عليه المادة (17) بطريقة صريحة (( لا يجوز الصرف من حساب الطوارئ إلا حدود المبالغ المقررة في الميزانية لهذا الغرض ، وبقصد مواجهة حالة مفاجئة لا تحتمل التأخير طرأت بعد إقرار الميزانية .

ويتم الصرف بقرار من مجلس الوزراء بناء على عرض وزير الخزانة )) ويلاحظ ان المادة 17 نصت على أن الصرف من بند الطوارئ لا يكون إلا لحالة مفاجئة ولا تتحمل التأخير .

أما الكارثة المالية الأخرى فهي تخصيص مبالغ بالمجان … مثل الثلاثة مليارات التي خصصت لزواج الشباب ، والتي ارتاح لها الكثيرون وانخدع في خلفياتها والهدف منها هو الدعاية الانتخابية ، وهو قرار غير مدروس بكل المعايير .. فهو كقاعدة عامة لا يجوز التصرف في المال العام بالمجان إلا في أضيق الحدود وليس بالمليارات وقد نصت المادة (24) من قانون ا لنظام المالي للدولة على (( لا يجوز التصرف بالمجان في مال من أموال الدولة الثابتة أو المنقولة إلا وفقا للقواعد والإجراءات التي يصدر بها قرار من مجلس الوزراء على أنه إذا جاوزت قيمة المال موضوع التصرف بالمجان عشرة ألاف جنيه فلا يجوز التصرف إلا بقانون. . ))

وهو صريح في أن التبرع بما يجاوز العشرة آلاف دينار لا تتم إلا بقانون .. فكيف يكون اذا كان بالمليارات ؟ تقوم كثير من دول العالم بمساعدة الشباب ولكن ليس بالمجان بل بموجب قروض بدون فائدة طويلة الأجل بما فيها المملكة المتحدة بريطانيا ..

ونتائج هذا القرار أن أجريت زيجات وهمية بأن يتفق أب البنت مع أب الشاب على الاستفادة من هذا القرار بعقد وهمي ينتهي بالطلاق مباشرة يتقاسما المبلغ مناصفة بدون زواج ، ورغم ان تكاليف الزواج لم تعد مرهقة في السنوات الأخيرة فمشكلة الشباب الحقيقية هي في فرص العمل والسكن .

وبما ان ميزانية العام الماضي لم تتضمن بندا للطوارئ فهذا يعني ضرورة إصداره بقانون من مجلس النواب مما يجعل هذا القرار يمثل مخالفة مالية وجنائية وفقا لقانون التطهير وقانون الجرائم الاقتصادية

الملاحظة الثانية : تفويض مجلس الوزراء لرئيسه لقد ورد في ديباجة القرارات المذكورة (( وعلى ما قرره مجلس الوزراء في اجتماعه العادي الثالث المؤرخ في 2021/04/27 م، بتفويض رئيسه في إصدار بعض القرارات )) وبناء على هذا التفويض أصبح رئيس الحكومة يصدر عشرات القرارات ، أحيانا مكتوبة بتوقيعه فقط وباسم مجلس الوزراء الذي لم ينعقد ولم يناقش مضمون القرار وأحيانا شفاهة أثناء خطابات دعاية انتخابية رنانة .

وحيث ان ممارسة الاختصاص القانوني للوظيفة العامة لا يجوز التنازل عنه إلا في حدود ضيقة جدا في صورة تفويض اختصاصات قد نظمها القانون رقم 29 لسنة 1970 بشأن التفويض في الاختصاصات حيث نصت المادة (1) منه على أنه (( لرئيس مجلس الوزراء أن يعهد ببعض الاختصاصات المخولة له بموجب القوانين واللوائح إلى نائب رئيس الوزراء أو الوزير المختص وللوزير أن يعهد من وقت لأخر ببعض الاختصاصات المخولة له بموجب القوانين واللوائح إلى وكلاء الوزارة أو مديري الإدارات العامة أو رؤساء المصالح ومن في حكمهم، وله أن يوزع هذه الاختصاصات بينهم في حالة تعددهم. ))

ويلاحظ من هذا النص ان التفويض في الاختصاص مؤقت ومحدود وأنه يتعلق باختصاصات رئيس مجلس الوزراء وليس باختصاص مجلس الوزراء بمعنى أن المجلس لا يجوز له تفويض اختصاصاته ، فالمجلس هيئة تتكون من جميع الوزراء حدد لهم القانون اهم اختصاصات الحكومة مجتمعين فلا يجوز لهم تفويض هذه ا لاختصاصات خاصة وان نص التفويض غامض في صياغته وهي تفويضه إصدار بعض القرارات دون أن يحدد هذه القرارات وحدودها ونطاقها ، مما أدى إلى تهميش مجلس الوزراء ، واصبح رئيس المجلس يصدر ما شاء له من قرارات باسم المجلس ولو بإهدار المال العام.

ولو رجعنا إلى اختصاصات رئيس مجلس الوزراء القانونية فقد نصت عليها المادة 44 من مقترح فبراير المعدل للإعلان ا لدستوري بهذه الصياغة (( يتكون مجلس الوزراء من رئيس للوزراء ونائب أو أكثر له والوزراء تناط به إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية.

ويتولى رئيس مجلس الوزراء الإشراف على أعمال المجلس وتوجيهه في أداء اختصاصاته، على أن يكون ذلك بالتشاور مع رئيس الدولة فيما يتعلق بوزارتي الخارجية والدفاع. )) كما نصت المادة (48) على أن (( يتولى رئيس مجلس الوزراء على وجه الخصوص ما يلي :

1) اقتراح تشكيل مجلس الوزراء على الرئيس للموافقة، ومن ثم عرضه علىمجلس النواب لنيل الثقة.

2) إصدار القرارات التي يتخذها مجلس الوزراء.

3) تعيين وكلاء الوزراء باقتراح من الوزير المختص. )) فهذه حدود اختصاصات رئيس مجلس الوزراء المنصوص عليها في الإعلان الدستوري الإشراف على إدارة المجلس وتوقيع القرارات التي يصدرها المجلس اقتراح تشكيل لحكومة تعيين الوكلاء باقتراح الوزير .

أما اختصاص مجلس الوزراء كهيئة مجتمعة فهو الأهم والأخطر فقد نصت عليه المادة (45) من مقترح فبراير حيث جاء نصها (( باستثناء المهام المسندة لرئيس الدولة، يختص مجلس الوزراء بممارسة السلطة التنفيذية، وإدارة أعمال الدولة، وضمان السير العادي لمؤسسات وهياكل الدولة العامة، وفق القوانين النافذة، وله على الأخص ما يلي:

1) وضع سلم لأوليات العمل الحكومي في المرحلة الانتقالية.

2) إقتراح السياسة العامة للدولة بالتشاور مع الرئيس والإشراف على تنفيذها بعدإقرارها.

3) إقتراح مشروعات القوانين.

4) إعداد مشروع الميزانية العامة والحساب الختامي للدولة.

5) . إصدار اللوائح والقرارات والتعليمات بهدف تنفيذ القوانين. 6) التفاوض بشأن المعاهدات والإتفاقيات الدولية.))

اما الخطابات الرنانة والوعود غير المعقولة وتعمد مخالفة القانون والانفراد بالسلطة وتهميش مجلس الوزراء وإصدار قرارات بالتجاوز لا تقام بها دولة بالإضافة إلى أن جميع هذه ا لقرارات تمثل مخالفات مالية و إدارية وجنائية قد تعرض الجميع للمساءلة يوما ما .

وما حضني على الكتابة اني لم اجد أي باحث أو كاتب تناول هذا الموضوع رغم وجود ديوانين للمحاسبة ورقابتين إداريتين وعشرات الكليات والأقسام المختصة وأمام صمت لجان مجلس النواب اضطررت لهذه ا لكتابة وكنت أتمنى أن يتولاه غيري .

بقلم المستشار بالمحكمة العليا الليبية: جمعة عبدالله بوزيد

كُتب بواسطة إبراهيم العربي

“وليامز”: لابد من الحفاظ على الهدوء والتقدم المحرز في الحوار “الليبي الليبي”

ردود أفعال حول مبادرة “الدبيبة” لإجراء الانتخابات