لم يكن من الفراغ أن دستور الولايات المتحدة كتبته الولايات المنتصرة، ولا تخَضب علمها براية وشعار تلك الولايات التي انتصرت على الولايات الأخرى في الحرب الأهلية الأمريكية، كُتب الدستور للاستقرار واعتُرف به وأصبح معمولا به حتى يومنا هذا، رغم أن هذا الحل ليس هو الحل المثالي ولكنه بعد مئات السنوات أثبت أن بإمكانه أن يكون حلا، شارل ديغول الجنرال الفرنسي قائد المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية ضد النازيين، كان رئيس الأمر الواقع في فرنسا وتنقل بين جنبات السلطة – وإن اختلفت المناصب والتسميات – حتى 1969 بعد تنحيه بسبب مظاهرات مناوئة له.
بعد أن صمتت أصوات المدافع وهدأ مؤقتا صوت الاشتباكات، وأطفئت محركات الطائرات الحربية في ليبيا عاد النبض للحالة السياسية الليبية، حيث استفاق القارئ للمشهد على فوضى عارمة تتمثل في استقطاب مجتمعي، وتنافر وتخوين أيدولوجي، وتلاسن بين المدن والقبائل، وتناحر سياسي، واشتباك في الاختصاصات والكل يحكم ولا أحد يسيطر، ومرتزقة وقوات أجنبية وحدث ولا حرج وقل في المشهد الليبي ما قال مالك في الخمر.
قد ترى داخل بلاط الحكام عدة حلول مثالية، ولكنها ولشديد الأسف قد تكون أيضا غير قابلة للتطبيق، فالتاريخ كان أفضل عبرة للتعلم من الأخطاء، واذا كان اتفاق الصخيرات الذي أتى بمجلس رئاسي مكون من رئيس وخمسة نواب وثلاثة وزراء دولة آخرين قد حظى بشرعية دولية، وكان فكرة لنوع من المشاركة أو تقاسم السلطة، إذ تمثلت في هذه التشكيلة أغلب القوى الفاعلة في عام 2014 ، إلا أن الفشل كان مستقبله بسبب ضعف الشخصيات، فليس السراج هو الممثل الأقوى عن إقليم طرابلس ولا يمتلك المجبري أي ارتداد شعبي، ولا يمثل كجمان أي وزن فعلي شعبي أو سياسي على خارطة مشهد النزاع الليبي.
فهنا كانت النتيجة، وهي توفير المقاعد وحصرها وتخصيصها ولكن الأهم هو أن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب جالسا على مقعده، وهذا مع تكرار الأسف لم يحدث أيضا، فكانت الكراسي تمثيلا بالوكالة، وهنا نحن أمام هجين من التبعية والبصمة الشخصية، التي قد يقدمها عضو المجلس الرئاسي الممثل لهذا الإقليم أو ذاك التوجه السياسي، وهنا حصل العجز الكامل والاستقالات واستئثار الرئيس فائز السراج بأغلب الصلاحيات وفشل تشكيل حكومة مع انهيار عام في الخدمات حتى انهارت سقيفة ليون بالحرب على طرابلس وانهارت على ما تبقى من ساكنيها وانتهت إلى ما انتهت عليه.
إذا كانت الصخيرات ولدت بعد حرب جزئية وفشلت، فكيف لنا بعملية سياسية بعد حرب شعواء أُعلنت فيها رسميا الحرب بالوكالة وانتشرت فيها المرتزقة والقوات الأجنبية والأسلحة الأشد تطورا وبالتعبية فهي الأشد فتكا ودمارا، فكانت الرؤية هي إنهاء الحالة الانتقالية للأبد والسعي نحو انتخابات تنهي فكرة الغرفتين التشريعيتين في طرابلس وطبرق والانقسام المؤسساتي والعسكري والاقتصادي والحكومي، وبالإمكان أيضا إنهاء النظام البرلماني الذي أثبت فشله الذريع في ليبيا وفي تسيير الحالة الليبية على أقل تقدير في هذه المرحلة.
العملية السياسية الصعبة والمعقدة والذي بدأت بفكرة 13 + 13 + 13 في سويسرا وتطورت إلى ملتقى الحوار السياسي الليبي أو ما يعرف بلجنة الـ 75 وصُيغت خارطة الطريق وتم التأكيد على انتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر لتكون رئاسية وبرلمانية لتحقيق ما سلف ذكره من ضوابط المرحلة وأولوياتها.
المرحلة الصعبة التي خرجت منها ليبيا بمعارك لتوها كانت تحتاج صخيرات جديدة لكن ليست بالوكالة هذه المرة، تشكلت القوائم التي كانت لابد أن تُشكل، من مجلس رئاسي ثلاثي المقاعد للأقاليم التاريخية الثلاثة برقة وطرابلس وفزان، وبرئيس حكومة هذه المرة لتفادي احتكار السراج للمنصب في صخيرات 2015 ، في مرحلة المجمعات كان الحدث الأبرز هو عدم مرور عقيلة صالح رئيس مجلس النواب من المجمع الانتخابي لإقليم برقة بعد منافسة من الشريف الوافي عضو المجلس الوطني الانتقالي المنتخب في 2012 ومحمد البرغثي سفير ليبيا في الاردن وآخرين، بمعنى أن المجمع البرقاوي مقسم بين عقيلة صالح وآخر يتمتع ممثلوه بتبعية له وإن كان عقيلة قد تحصل على نصيب الأسد لكنه لم يكن كافيا ليمر ويعاود الانضمام لقائمة أخرى.
تشكلت القوائم بتنوعها كما أسلفت وتشكلت قائمة أطلق عليها قائمة الصقور احتوت عقيلة صالح رئيس مجلس النواب واللواء أسامة جويلي آمر غرفة عمليات بركان الغضب وآمر المنطقة العسكرية الغربية وعبد المجيد سيف النصر عن إقليم فزان ووزير داخلية الوفاق المفوض فتحي باشاغا رئيسا لحكومة هذ المجلس الرئاسي.
بالنظر لحجم التأثير أمام القوائم الأخرى لايمكننا حتى مجرد المقارنة، مع التحفظ بأن عقيلة صالح غير مقبول في الغرب الليبي ولربما يكون اللواء جويلي أيضا غير مقبول في الشرق، لكن التوازن والمكانة والحظوة والشجاعة التي يتمتع بها كل هؤلاء ما تزال أكبر من آخرين، فخطاب باشاغا وجويلي فترة احتدام الحروب واشتداد القتال كان خطابا عقلانيا سواء قبل الحرب فترة الوفاق أو أثنائها أو بعدها، ناهيك عن الدور الذي لعباه خلال فترة توليهما للملف الأمني بالنسبة لباشاغا والعسكري بالنسبة لجويلي، فاللواء جويلي نجح في إعادة الطريق الساحلي للحياة وسهل التنقل بين الزاوية وطرابلس وساهم في تقليل الحرابة وتحجيم المجموعات الخارجة عن القانون، بينما برز دور باشاغا في وزارة الداخلية بما لا يمكن إخفاؤه أو إنكاره في احتواء أفراد الأمن وإعادة العناصر الأمنية لعملها وتحجيم التشكيلات المسلحة وتعزيز الأمن داخل نطاق سيطرته.
على عكس هذا اختار الملتقى السياسي قائمة أخرى يقودها الدكتور المنفي سفير ليبيا في اليونان، وموسى الكوني عضو المجلس الرئاسي السابق المستقيل عن عضوية المجلس، وعبد الله اللافي المصرفي السابق وعضو مجلس النواب عن مدينة الزاوية و عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة لهذا المجلس، المسيطرين على المؤسسات السيادية من مصرف مركزي و ديوان محاسبة وغيرها وكل الفاعلين تحالفوا ضد قائمة الصقور وشيطنوها ورموها بكل ما استطاعوا، وتجاهلوا كل الأدوار
الإيجابية لجويلي وباشاغا ونظروا فقط لمثالب عقيلة صالح من منظورهم طبعا، فما بين التصويت الانتقامي وتحالف المنفي مع خزان برقة الانتخابي المناوئ لعقيلة صالح صارت النتيجة لفوز قائمة المنفي التي أطلق عليها اسم قائمة التوافق.
استلمت الحكومة والمجلس الرئاسي المنتخب في فبراير، فبإمكاننا بعد 8 أشهر تقييم قائمة التوافق ما بين وضع معيشي وعسكري وأمني، فبالنسبة للوضع العسكري بقي حفتر كما هو عليه وتم تحجيم اللواء جويلي واستحدثت منطقة عسكرية جديدة سلمت لوكيل وزارة الدفاع في حكومة الوفاق صلاح النمروش وللأسف تشهد هذه المنطقة العسكرية تحديدا أكثر التوترات الامنية والعسكرية، أما على صعيد الحكومة والخدمات فإن الانقسام عاد بشكل رأسي بين وزارء الحكومة ولا خدمات نُفذت ولا أخرى وصلت فيما يعاني الجنوب انهيارا واضحا في الخدمات والتموين والتزويد بالمشتقات النفطية، فيما تمت محاصرته من قبل مجلس النواب بسبب تجاوزات وتذبذب في العلاقة وخلاف حول الأولويات، وأما الجانب الأمني فليس أفضل مما سبق ذكره؛ فطرابلس تحتضن اشتباكات بين الفينة والأخرى وانقساما فنيا في وزارة الداخلية بين الشرق والغرب والجنوب وانقساما واضحا في المؤسسة الدينية بين دار الإفتاء وأوقاف البيضاء وطرابلس، مع ارتفاع في أسعار السلع ووعود بزيادة الرواتب دون تنفيذ.
ما طرأ من جديد هو الخلاف العميق بين الرئاسي والحكومة، ويبدو أن الوضع سيشهد تصعيدا جديدا ولن ينتهي بسهولة وقد يغرق قارب التوافق وقد يؤجل الانتخابات ويزيد من محاصرة الحكومة أكثر وأكثر ويحد من صلاحياتها ويزيد من عزلتها.
في الواقع أن المتنبئين بمستقبل قائمة الصقور لم يكلفوا أنفسهم بتسخير إمكاناتهم الفذة في التنبأ بمستقبل قائمة التوافق – الذي أراه مظلما -، ولا مستقبل ليبيا الذي يسير للانقسام أو للحروب نظرا لفشل الفائزين باحتواء البلد ولملمة شملها، ليبيا ليست طرابلس فقط ، وأن ولادة حالة كحالة فايز السراج 2018 و 2019 ستؤدي إلى استضعاف الآخرين وإخراجهم خارج منظومة الحكم المشاركة، مما سيوجه بنادقهم مجددا نحو الرئاسي والحكومة، وإذا كان العالم توافق ذات يوم فقد لا يمنحك فرصة أخرى للتوافق وسيدير ظهره لك ” واللي تعقدها بإيدك حلها بسنونك” .