ليبيا، حيث الجفاف الدبلوماسي، والتصحر المؤسساتي، والاستقطاب العسكري، والتلاعب الإقليمي، والعاصمة طرابلس، حيث تقبع السرايا الحمراء منتظرة بين حاكم جديد يجلس على عرشها، أو تجديد عهد مع السلطة الحالية، مع وجود بعض التحويرات.
تقييم للوضع
انتهت على أسوار طرابلس حرب ضروس بين حكومة الوفاق، صاحبة الشرعية المحلية والدولية برئاسة فايز السراج، وقوات الكرامة بقيادة خليفة حفتر، حرب ظن الأخير أنها لن تتجاوز مدتها 48 ساعة انتهت بعد 14 شهراً، بنصر خجول للوفاق، وبتعادل نسبي للقوى على الأرض، وبمنحدر خطير، ألا وهو سيطرة مرتزقة فاغنر الروسية والمتحالفين مع حفتر على حقول ضخ النفط الليبي.
نهاية الحرب بهذه النتيجة رسمت سيناريو أنه لا أحد منتصر، فالوفاق نجحت في التصدي للعدوان بإمكانات فقيرة، كما أنها خسرت مدينة سرت لصالح حفتر، وربحت مدن الجبل الغربي حتى تونس والجزائر وقاعدة الوطية الهامة استراتيجياً، بينما فشل حفتر في عدوانه بالسيطرة على السلطة بالقوة، ونجح في التقدم إلى سرت، لكنه خسر تمركزه في قاعدة الوطية، والتي كانت تمثل خنجره الذي يهدد به عنق طرابلس، وبين هذه المفارقات مقتل الآلاف من الليبيين المقاتلين ومئات المدنيين ومئات المقابر الجماعية، ونزوح مئات الآلاف من بيوتهم، وتدمير الاقتصاد، وإيقاف ضخ النفط، وتدخل إقليمي أكثر شراسة ووضوحاً في الشأن الليبي.
حقيقة الصراع على السلطة التنفيذية القادمة في طرابلس هي بين السراج الراغب في البقاء، وأحمد معيتيق نائبه الحالي، الذي يمني نفسه بالحصول على منصب رئيس الحكومة القادمة، وفتحي باشاغا وزير داخلية الوفاق الحالي، وبين عقيلة صالح العائد للحلول الدبلوماسية وخليفة حفتر الخانع للحل السياسي، وشخصيات أخرى من شرق ليبيا.
كيفية الوصول إلى منصب السلطة التنفيذية
حتى الآن توجد ثلاثة مسارات للوصول للسلطة التنفيذية الموحدة في ليبيا، أولها عسكري وقد فشل، وثانيها هو عقد صفقات بين المتنازعين، وآخرها هو مسار البعثة الأممية للدعم في ليبيا، فبعد التوغل الروسي في الأراضي الليبية -وهو الأول في التاريخ- على يد حفتر ومسانديه الإقليميين، وإقامة قواعد روسية في قلب الصحراء الليبية في الجفرة وسبها، وعلى الساحل الليبي جنوب المتوسط في سرت، ما قد يؤدي لتقييد حركة القوات الأمريكية في إفريقيا (الإفريكوم) وأوروبا من جنوبها، أصبحت الدبلوماسية الأمريكية أكثر نشاطاً، فيحاول السفير الأمريكي في ليبيا ريتشارد نورلاند مع الدبلوماسية الأمريكية ستيفياني ويليامز، ورئيسة البعثة الأممية للدعم في ليبيا بالإنابة، إنشاء مجلس رئاسي جديد فوق حكومة تنفيذية موحدة وقوية، مجلس رئاسي يتكون من ثلاثة أعضاء ممثلين عن أقاليم ليبيا الثلاثة، يتمتعون بما يتمتع به البرلمانيون في الأنظمة الرئاسية، وحكومة تنفيذية موحدة وقوية تنهي الانقسام وتوفر الخدمات، وتقود ليبيا لانتخابات برلمانية ورئاسية نهاية هذا العام، مساع دبلوماسية تسير في مسار مليء بالعوائق والعراقيل، يؤمنه فقط إطاره العام، المفضي لتوزيع السلطة بين المكونات الإقليمية الجغرافية، وعزم أمريكي واضح للبدء في إنهاء الفوضى في ليبيا.
مسار البعثة، أو بين هلالين (مسار ستيفاني) كما يحلوا للبعض تسميته، لا يبدو أن طريقه مفروش بالورود، فالسراج الذي أعلن في سبتمبر/أيلول الماضي عزمه ترك السلطة، والاستقالة في أكتوبر/تشرين الأول 2020، أصبح يسابق الزمن ويسعى بكل الطرق ليكون متواجداً في المجلس الرئاسي الجديد، فمنذ شهر تقريباً صرّح وزير خارجية إيطاليا لويجي دي مايو أنه نقل رسالة من السراج إلى حفتر، مفادها قبول الأول بتعيين رئيس وزراء يسميه حفتر، ربما قد يكون امعيتيق، نائب السراج الحالي، والمتوافق مع نظام حفتر، ومن ورائه روسيا، والذي نجح فيما عُرف باتفاق ضخ النفط، وابن مدينة مصراتة القوية، فهو يحقق قدراً متواضعاً من القبول، خطوة جاءت من طرف السراج الذي من المفترض أنه سيغادر منصبه بكامل الرضا، وفي توقيت تقام فيه حوارات في الغردقة وجنيف وغدامس والرباط، كما أن السراج قام بتشكيل جهاز أمني جديد يدعى جهاز دعم الاستقرار، ووضع على رأسه قادة من كتائب أمنية داخل طرابلس، الخطوة التي يعتبرها البعض محاولة لإرباك النظام الأمني في طرابلس، والذي يقوده فتحي باشاغا وزير الداخلية، والتي تنم كذلك عن نية السراج في البقاء بالسلطة.
فرص النجاح
بعد حرب الخليج الثانية واجتياح صدام حسين للكويت، صرّح الرئيس المصري محمد حسني مبارك، داعياً صدّام وقتها للانسحاب من الكويت “أن الحروب فقط تحرك قضية سياسية، ولا بد أن تنتهي بحل سياسي”، وهذا ما تسعى الرؤية الأمريكية لتحقيقه في ليبيا، ففشل حفتر في حربه بيّن الفجوة والمشكلة، وهيّأ مناخاً سياسياً للحديث بجرأة عن مسببات هذا العدوان، فمشكلة الانقسام والفراغ السياسي وتغييب إرادة الشعب الليبي وفرض الشخصيات والآراء عليه من الخارج كرّست لهذه الحالة، والتي لا يمكن القضاء عليها إلا بانتخابات عادلة ونزيهة، يقبل بنتائجها الجميع، هذه الانتخابات بدورها تحتاج لسلطة تنفيذية موحدة، لتنهي مرحلة الاستقطاب، وتقضي على الانقسام، وتُصدر للمشهد شخصيات غير جدلية قادرة على تقديم الخدمات للمواطن.
هذا المسار الوردي من المرجح ألا يكتمل، فأقطاب الصراع؛ السراج وحفتر يمتلكان القدرة على إشعال أي حرب في أي لحظة قد تعرقل التهدئة الضرورية لمثل هذه التوافقات، أيضاً فالصفقات الجانبية وغير المحسوبة بين السراج وحفتر تحديداً قد تقضي على آخر أمل حقيقي بدعم دولي جدي، كما أن الدور الروسي قد يكون نقطة فارقة، فبالتوافق قد يتهدد الوجود الروسي المغطى سياسياً بصفقات مع حفتر وداعميه.
أوروبا ككل تباينت مواقفها، فألمانيا زعيمة الاتحاد الأوروبي تدعم مسار البعثة، بينما راجعت فرنسا مواقفها، وأصبحت منفتحة على الجميع، تركيا تخشى أن يكون المجلس الرئاسي الجديد مناوئاً لها فتخسر مصالحها في ليبيا، وبالتالي في البحر المتوسط كله، أما روسيا فما يهمها فقط هو استمرار حالة الهلامية واللادولة، حتى تتمكن أكثر من التواجد في ليبيا، وولادة سلطة جديدة حتى وإن كانت انفصالية، مصر لا تريد أن تسير عكس السير الأمريكي، وهي الحليفة للعم سام، لكنها بدأت لتوّها إعادة تدابير الثقة مع حكومة الوفاق التي ناوأتها طويلاً، إيطاليا تمتلك فرصة أن تكون عراب اتفاق جديد بين السراج وحفتر، وبالتبعية تعزيز مصالحها في ليبيا.
من الواضح أن انعدام التوافق الدولي قد يكرّس حالة فوضى مثل الفوضى ما بعد الصخيرات 2015، وبالإمكان قراءة هذا التخبط عن طريق قرار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش تعيين مبعوث أممي جديد لليبيا بدلاً من ستيفياني ويليامز، التي قطعت مسافات طويلة في طريق شاق ووعر نحو ولادة توافق حقيقي، أيضاً فاختيار الشخصيات الممثلة للأقاليم، واختيار رئيس الحكومة القادمة قد تتعثر نتيجة أي عوارض خارجية، ثم بعدها اعتماد الحكومة ومدى قبول الليبيين بها، وتعاون المجتمع الدولي معها، لذا فتغيير المجلس الرئاسي أمر لا مناص منه، وبعدها ستتسلسل الأحداث، إما نحو الاستقرار والتحسن وإما نحو الانهيار والحروب الأهلية وتشرذم الدولة.
المصدر: “عربي بوست”.