تُعرف الفتوى بأنها بيان الحكم الشرعي بحسب الاجتهاد مع عدم الإلزام، فهي بعكس الحكم القضائي أو التشريع القانوني أو القرار التنفيذي الذي يرفع الخلاف ويترتب على صدوره الالتزام به، وإذا كانت الفتوى بيان الحكم فإنّها لن تكون سبيلاً للعمل السياسي الذي تستلزم طبيعته أكثر من بيان الحكم، بل تستدعي العمل على الموازنة بين المفاسد والمصالح، ودرء المفاسد، وربما درء مفسدة بأخرى منها، ثم جلب المصالح ومراعاتها، واعتبار المقاصد الشرعية والنظر إلى المآلات في ذلك كله.
هذه المقدمة في بيان طبيعة العمل السياسي يجب أن تكون حاضرة ونحن نستمع لخطاب المفتي الدكتور الصادق الغرياني وهو يعلق على العملية السياسية، ويتخذ من وجهة نظره وتحليلاته وحتى معلوماته المغلوطة قولاً فصلاً وحكماً نهائياً ضد حزب أو أشخاص، هذه التحليلات والتعليقات ما كانت لتختلف عن حديث أي سياسي أو تعليق ناشط ومهتم لولا أنها تدثرت بطيلسان الفتوى واعتمّت بعمامته، فهي تخرج عن الاستدلالات الشرعية والحيثيات التي يستوجبها مقام الإفتاء، إلا إن كان الدكتور الغرياني يرى أنه لا معقب على قوله، ورادّ على رأيه.
وحتى لا يكون الكلام مرسلا سأعرج على ما تناول به الدكتور الغرياني بالانتقاد حزب العدالة والبناء ووزير الداخلية فتحي باشاغا، فالدكتور الغرياني اعتبر البعثة الأممية متآمرة، وأنها اختارت أعضاء لجنة الحوار كخطوة لإتمام مؤامرتها، ثم ادعى الشيخ أن الحوار في حقيقته صراع على السلطة بين طرفين هما العدالة والبناء و”الطرف الآخر” الذي يُشكل فهم المقصود به من كلام الدكتور الغرياني هل هو تيار الكرامة أم عصابة السراج؟
ثم إن الدكتور الغرياني أضاف لدعواه الأولى دعوى أخرى حين قال: إن العدالة والبناء يصرون ويتعنتون لاختيار الأسوء بدعم تولي عقيلة صالح رئاسة المجلس الرئاسي، وأن هذا مما تواتر واشتهر عنهم.
وهنا وقفات: – الأولى: على أي أساس قسّم الدكتور الغرياني الموجودين في الحوار إلى طرفين، أحدهما بقيادة العدالة والبناء، مع أن المتابع البسيط يعلم أن ملتقى الحوار متعدد الأطراف، وفيه ممثلون عن مختلف التيارات والتوجهات.
– الثانية: إن كان يقصد الصراع في المنطقة الغربية فقط بين العدالة والبناء، ويقصد بالطرف الآخر المجلس الرئاسي والداعمين لاستمراره، فبأي حجة وأي دليل يتهم الحزب بالتعنت والإصرار على الدفع بعقيلة صالح رئيسا للمجلس الرئاسي، هل صدر عن الحزب أو قياداته من صرّح بذلك؟
أم هي الدعاوى تُطلق جزافا من مقام الفتوى ومنبر الحكم الشرعي؟!! – الثالثة: إذا سلمنا جدلاً أن حزب العدالة والبناء يدفع بعقيلة صالح ليكون في رئاسة المجلس الرئاسي، فأين هذا ممن عقد صفقته مع مجرم الحرب حفتر، وبدأ يتعاون معه، ويُعِدّ معه الترتيبات المالية التي ستسوّى من خلالها ديون حفتر التي تجاوزت الـ50 مليار دينار، وهو ما نص عليه اتفاق سوتشي، فلماذا لم نرَ المواقف الصلبة من الدكتور الغرياني في هذا، أم أن هذا المسار والتوجّه لا يستدعي المناكفة السياسية؟!
الدكتور الغرياني أيضا زاد من دعاويه على الحزب بأنه سيدفع بوزير الداخلية فتحي باشاغا لتولي رئاسة الحكومة، وإن كان الحزب لم يُعلن هذا بشكل رسمي، فالعجيب استدلاله على أن باشاغا غير قادر على أن يقود الحكومة بالحزم ويبسط نفوذه وسلطته على وزاراته، بأنه لم يوقف هو وحزب العدالة والبناء قرارات رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج بخصوص إنشاء الأجهزة الأمنية وإسناد قياداتها لمن عُرف بابتزاز مؤسسات الدولة ونهب المال العام.
ومحل التعجب من هذا الاستدلال في جانبين، الأول: تحريض وزير الداخلية على تجاوز صلاحياته والانقلاب على السلطة القائمة، والثاني: لوم وزير الداخلية وعدم انتقاد ولوم رئيس المجلس الرئاسي على هذه القرارات التي تهدف إلى بناء تحالف مع المفسدين والمجرمين؛ ليستمر في منصبه.
أما حديث الدكتور الغرياني الذي لا يملّ تكراره ويراه من مسلمات العقول عن الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات، فالرجل يصر على أنه هو الخطأ الذي لا يغتفر، وأنه فتح باب الشر بحسب رأيه، ويتجاهل أنه قبل هذا الاتفاق لم يكن أحد يعترف بحكومة الإنقاذ، ولا أحد يتواصل مع ليبيا، وكانت الشرعية لحكومة الثني التي يهيمن عليها حفتر، وكان عقيلة صالح هو من يقوم بمهام رئيس ليبيا، ويمثلها في المحافل الدولية، ثم إنه لولا اتفاق الصخيرات لم توقع تركيا مذكرتي التفاهم مع ليبيا، وسرد هذه النقاط ليس الغرض منه تغيير وجهة نظر الدكتور الغرياني، ولكن للفت نظره إلى أن هناك مصالح راعاها من شاركوا في هذه الاتفاق ووقعوا عليه، وأنهم ليسوا خونة وباعوا الوطن لأعدائه كما يدعي ويتهم.
خلاصة القول إن حديث الدكتور الغرياني في السياسة وهو في مقام الفتوى ليس له صلة بالفتوى وبيان الحكم الشرعي، بل هو مناكفة سياسية، وإعلان للرأي السياسي، وإصدار هذا الرأي من مقام الفتيا تلبيس على الناس، وإزراء بالفتوى التي هي توقيع عن الله، وإذهاب لهيبة الشريعة من القلوب، وفتح لباب الاستهانة بها، وإذا كانت ممارسة السياسة متاحة للدكتور الغرياني، فليترك مقام الإفتاء لما جعل له وليمارس السياسة من ميدانها ومن خلال آلياتها، والله يوفق الجميع.