تؤكد تركيبة المشاركين في جلسات الحوار السياسي المعلن عنها من البعثة الأممية تشابك وتنوع المقاييس التي اختير الأعضاء؛ بناء عليها، ما بين ممثلي مجلسي النواب والأعلى للدولة إلى خليط من شخصيات سياسية واجتماعية ومدنية من آفاق عديدة ومختلفة ما يجعله أقرب لمؤتمر يضم شتات المشهد السياسي والاجتماعي الليبي الذي قسمته الحروب والأزمات، ويجعل المخرجات المنتظرة سواء نجت أو فشلت مسؤولية هؤلاء بالأساس، كما كان الشأن في مخرجات الحوار العسكري والمؤسساتي في كل من المغرب وجنيف ..
ممثلو المجلسين التشريعيين يتحملون أكبر مسؤولية في صياغة مخرجات الحوار ثم اعتمادها:
فأكثر من ثلث أعضاء وفد الحوار السياسي المعلن من البعثة الأممية هم أعضاء بمجلسي النواب والأعلى للدولة يمثلون دوائرهم الانتخابية الثلاث عشرة، اختارهم وزكاهم زملاؤهم في المجلسين، وأرادت البعثة من ذلك أولا إضفاء مزيد من الأهلية السياسية على مخرجات الحوار من خلال تحميل المسؤولية الأولى في مخرجات المسار للمؤسستين التشريعيتن المنتخبتين منذ قيام الثورة، ولأجل هذا نفس الهدف طعّمت البعثة الأممية القائمة بنشطاء وشخصيات سياسية كان لها حضور لافت في محطات سابقة مهمة تمثل تيارات مختلفة ومتعارضة.
وبالنسبة لممثلي مجلس النواب تحديدا فقد جاءوا موزعين على المجلسين المنعقدين في طبرق وطرابلس ما جعل وجودهم أكثر تمثيلا ومصداقية، لينهوا بذلك الجدل الذي رافق جلسات الحوار في المغرب المخصصة لإعادة توحيد المؤسسات السيادية، حيث اشتكى نواب طرابلس من تهميشهم من طرف البعثة في مسار الحوار، ولذلك أهميته القصوى مستقبلا؛ لأن مجلس النواب سيكون مدعوا لجلسة عامة جامعة لاعتماد المخرجات والحكومة الجديدة التي سيفرزها الحوار ، وهو هدف آٔخر جعلت منه البعثة مقياسا في جعل النصيب الأكبر من ممثلي الحوار لدى مجلسي النواب والأعلى للدولة.
تمثيل القبائل لسحبها من ورقة المزايدات والمغامرات
يظهر بين المشاركين عدد كبير من الدكاترة والمحامين وأساتذة الجامعات في تخصصات القانون مع تمثيل محسوس للمرأة ، وهو خيار يوسع من حجم المشاركة في الحل إلى طبقات مثقفة لطالما اشتكت من الإقصاء ؛ بسبب بعدها عن مراكز صناعة القرار السياسي.
كما يظهر أيضا بين القائمة الاسمية المعلنة من البعثة الأممية عديد أعيان القبائل والمكونات الاجتماعية في الشرق والغرب والجنوب، ما يمنح مخرجات الحوار قاعدة دعم اجتماعي ضرورية، ويسحب ورقة توظيف القبائل من قبل المغامرين والمزايدين وتجار الحروب.
هل يتلقف السياسيون والأعيان المجتمعون في تونس رسالة بوشحمة ورفاقه؟
يعتقد المراقبون أن التحدي الأكبر في مسار الحوار قد أنجزته اللجنة العسكرية باتفاقها على جملة نقاط تضمن، لو طبقت، وقف الحرب نهائيا، وإعادة بناء جيش ليبي موحد، وقدم أعضاء اللجنة مواقف شجاعة لوقف نزيف الدم الليبي، وإعادة ربط أوصال الجسد الممزق؛ بسبب حروب حفتر المدمرة.
رئيس وفد الوفاق في الحوار العسكري، اللواء أحمد بوشحمة، وهو أحد أبرز قادة البركان الذين لا يزايد عليهم أحد في مساره وتضحياته، وجه بعد توقيع الاتفاق رسالة واضحة وكبيرة، داعيا المشاركين في الحوار السياسي إلى أن يلعبوا دورهم، ويكونوا في مستوى تطلعات شعبهم وآماله في إنهاء الانقسام وبناء دولة قوية موحدة.
فمرة أخرى يقف الليبيون أمام محطة فاصلة لمكاشفة بعضهم البعض بأخطائهم وهواجسهم، على قواعد شفافة واضحة تتجه نحو طي صفحة الحروب، وبناء دولة القانون.
حوار يجمع لا يفرق فرضته هزيمة العدوان
شكلت هزيمة العدوان واندحاره خارج طرابلس لحظة فارقة في مسار الدفاع عن الدولة المدنية التي تحتكم فقط للقانون وسيادة الشعب، لكن منع إنتاج وتصدير النفط ودخوله حلبة الابتزاز والتآمر الإقليمي والدولي مع استقدام آلاف المرتزقة الأجانب بعتادهم الحربي المتطور إلى قلب المنشآت النفطية، أظهر أن عرابي العدوان لم يعودوا يتردعون بخلق أو يكترثون بعرف أو يلتزمون بقانون، وأصبحوا مستعدين لأي سيناريو يشبع غريزة الانتقام حتى لو كان تجويع الليبيين وتدمير مصدر رزقهم الوحيد، ودق آخر مسمار فيما تبقى من مبررات بقاء الدولة، وهو تأمين رواتب موظفيها، وسط صمت مريب من المجتمع الدولي المنقسم بين المتواطئ أو المتخاذل أو المكتفي ببيانات عابرة تتبخر كلماتها بمجرد صدورها.
كانت هذه اللحظة فارقة لتجعلنا آمام خيارين: إما الانتقال إلى حرب طويلة مدمرة أخرى في كل مكان يوجد فيه حقل أو ميناء نفطي يغذيها وينفخ فيها إلى ما لا نهاية عرابو الحروب الإقليميين، أو الجلوس للتفكير في حلول سلمية تقدم تنازلات متبادلة، وتراهن على أن الليبيين الذين صدوا العدوان، وأفشلوا مخططه هم في موقع قوة يجعلهم يفاوضون؛ لافتكاك ضمانات العيش الكريم وحماية دولتهم واقتصادهم من الدمار ونقل الصراع من فوهات البنادق إلى ساحة السياسة والنقاش السلمي، وذلك الهدف الذي يجب أن يلتف حوله كل حر شريف في البلاد، بعيدا عن منطق المغالبة والمحاصصة والحسابات الشخصية والفئوية الضيقة.