التضليل والتزييف هو من أبغض الآفات التي نواجهها في أزمتنا الحادة في ليبيا، ذلك لأنه يأتي في مقدمة الأسباب التي أججت النزاع وجرتنا إلى حلبة الصراع نتقاتل بوحشية فلا يرقب أحدنا في الآخر إلاً ولا ذمة.
وسدنة التضليل عندنا في الغالب من قليلي البضاعة في الفكر والمعرفة ومن الموتورين، غير أن تجربتنا كشفت عن تورط من يعدون ضمن قوائم النخب المثقفة والحكماء ومن في مستواهم، وهنا الطامة الكبرى.
ويمكنك عزيزي القارئ أن ترجع معي إلى بداية الانشقاق بعد ثورة فبراير وستجد أن التزييف والتضليل كان العمدة في تفجير الوضع والشعلة لقيادة الجمهور إلى المواقف المتشنجة والتسليم بغرض الساسة والعسكريين من أصحاب المطامع لإيقاد نار الفتنة وشن الحروب.
والتزييف بضاعة يتاجر بها أصحاب المصالح في الشرق والغرب، ومن أنصار كافة التوجهات، إلا أن المتابعة تكشف أنها استراتيجية ضمن جبهة الكرامة وكانت فاعلة في التمهيد لكل ما أقدم عليه حفتر من كوارث. وقد تناولت الموضوع عدة مرات خلال الأعوام الماضية، لما له من أثر في نقل الأزمة من مستوى إلى آخر أخطر.
ذئاب تحولوا إلى حمائم
ما دعاني للعودة إلى هذا الموضوع هي المواقف والتصريحات “الحمائمية” والمفردات الرقيقة التي يلوكها رموز ونشطاء ضمن جبهة الكرامة مؤخرا والتي تنبذ الحروب وتدعو إلى السلام والوئام وإنهاء الخلافات بالحوار السلمي والانتخابات بدل الاقتتال وإراقة الدماء.
فحفتر الذي هيج الجموع بخطاباته المبررة للحرب والقتل والفتك والدمار، والذي اعتبر المجلس الرئاسي ومصراتة رأس الشر وسبب الداء يوقع اتفاقا مع أحد المسؤولين المبرزين من المدينة، وعضو في المجلس الرئاسي الذي خطط حفتر لإسقاطه بالقوة ومحاكمة أعضائه وربما إعدامهم لأنهم إرهابيون وسراق.
لم يخبرنا حفتر ولا المروجون له من “إعلاميين” ما الذي تغير حتى ينقبلوا هذا الانقلاب الجذري في موقفهم من الإرهابيين والسراق والعملاء والخونة ومصاصي الدماء والانكشاريين…
التحول 180 درجة في مواقف حفتر كان له صدى لدى المروجين والمسوقين، فبعد أن أطلقوا حناجرهم للعن مصراتة وعملية بركان الغضب والدعوة إلى سحقها، ها هم اليوم يمدون الأيادي لها للسلام.
أحد أبرز الأصوات المضللة لم يترك من خصال الشر إلا ووضعها في مصراتة واعتبرها أكثر ضررا من الصهاينة وغيرهم، واستمتع ومتع متابعيه بمشاهد القذائف وهي تسقط على سكان المدينة في عرض مرئي يندى له الجبين، ها هو اليوم يقفز من ضفة إلى أخرى في مواقف مناقضة للأولى تماما لكن صنوها في التزييف والتضليل، فمثل هؤلاء لا قيم لهم ولا أخلاق، ويميلون مع الأمواج أينما تميل.
إذ لم يخبرنا حفتر ولا المروجون له من “إعلاميين” ما الذي تغير حتى ينقبلوا هذا الانقلاب الجذري في موقفهم من الإرهابيين والسراق والعملاء والخونة ومصاصي الدماء والانكشاريين…الخ، وقائمة السِباب والشتم طويلة وقاموس هؤلاء لا حد له في هذه المرادفات، لم يخبرونا ما الذي تغير حتى يتخلوا عن خطاب الكراهية والعنف، ويستبدلون به حديث السلام والوئام؟!
ضحك على الذقون
إنها السياسة والمصالح.. بعد هزيمتهم في طرابلس، فليس لدى هؤلاء مبادئ ولا قيم تحترم، ولو كان لديهم مثقال ذرة منها لما تجرأوا أن يقفوا الموقفين المتناقضين أمام أنصارهم قبل مخالفيهم
لو حسب هؤلاء حسابا للرأي العام لما أقدموا على هذه التبدلات والتقلبات المشينة، فقد كلف عبثهم هذا الليبيين الكثير من الأرواح والأموال.
لم يقدر هؤلاء الدماء التي أريقت والأرامل والأيتام الذين فقدوا أحبتهم ومعيليهم، ولم يراعوا الذين هبوا استجابة لتضليلهم ظنا منهم أن الحرب عادلة والموت فيها تضحية في سبيل الوطن، فإذا بالحقائق التي جاءت على ألسنة المهيجين والمحرضين على القتل والقتال تكشف أنها حرب مصالح شخصية وليست من أجل الوطن، وأن من تم استباحة دمائهم وأموالهم عبر خضاب التزييف والتضليل هم ليبيون وليسوا مرتزقة ولا غزاة ولا انكشاريين ولا إرهابيين….الخ، حسب قولهم، وأنهم سيتقاسمون معهم الأموال، وهنا تصدق المقولة المحزنة “إللي مات مات على روحه”.
لم أرد بكلامي هذا معارضة التسوية السياسية أو الوقوف ضد السلام والوئام، وإنما غايتي هي التنبيه إلى خطر التزييف والتضليل، وكشف وضاعة المحرضين والمهيجين على القتل والقتال والمروجين لخطاب الكراهية حتى يدرك الناس حقيقتهم فلا يقعوا في شباك مصائدهم مرة أخرى.
.