ظهر الناطق باسم حفتر مرتبكا، وعلامات الفزع في عينيه وهو يعلن عن قرارات جديدة بإعادة التمركز في بعض المواقع في طرابلس في عملية عسكرية تكتيكية تعبوية، عرفت فيما بعد بـ”الانسحاب التكتيكي”، منبها المواطن أن لا يتفاجأ ولا يفسر الأمر بطريقة أخرى فكل ماهناك هو تكتيكات عسكرية.
استبدال مصطلح الهزيمة بمفردات إعادة التموضع أو التمركز والانسحاب التكتيكي حيلة قديمة تتجدد لتخفيف الوطأة على الأنصار، فقد خففت أم الهزائم العربية في يونيو/حزيران 1967 بمصطلح النكسة، ووصف ضياع فلسطين في 1948 بالنكبة، والواقع أن البلدان العربية منذ تدشين عصر الانقلابات العسكرية والبيان الأول، وهي تائهة بين النكبات والنكسات.
تكشف وقائع ما بعد الحرب أن ما جرى ليس هزيمة فحسب للمليشيات الغازية، وإنما انهيار شامل، فالمنسحب لا يترك خلفه آليات وذخائر يمكن أن يستفيد منها العدو، ولا يترك جثث جنوده مادام الانسحاب مدروسا ومخططا له كما زعم المسماري.
ويبدو أن الأنصار لم يستوعبوا تماما تصريحات المسماري، إذ كيف يستقيم أن يبشرهم أن قواتهم المسلحة على بعد كيلومترات معدودة من قلب طرابلس، وهي قاب قوسين من جزيرة الفرناج، وفجأة يعلن أنها صدت هجوم المليشيات وحافظت على تمركزاتها بجزيرة الزعفران بسرت! لذلك كان لابد من استنفار أهم البرامج في الفضائيات وجلب المحللين العسكريين وخبراء الانسحابات الاستراتيجية؛ لتوضيح الفوارق السبعة بين الهزيمة والانسحاب التكتيكي، وإقناعهم أن ما جرى هو خطة عسكرية تعبوية محكمة، وسوف تدرس ضمن مناهج أرقى الأكاديميات العسكرية للاطلاع عن كثب على تكتيك عبقرية عسكرية مذهلة لا يفصلها عن هدفها سوى بضع كيلومترات، ولكنها تتراجع تكتيكيا قرابة 500 كيلومتر لإعادة التمركز وترسيخ التموقع. فلا طعم للنصر ولا معنى لتحطيم العدو إذا لم يتموضع الجيش كما ينبغي.
فإنما الجيوش التموضوع مابقي
فإن هموا ذهب تمركزهم ذهبوا
البعد الآخر للانسحاب التكتيكي كان رومانتيكيا ناعما نفذته بنجاح محدود بنات طارق. وهم رهط من السياسيين والإعلاميين والنشطاء والصحفيين امتطوا صهوات المنابر الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي خلال شهور الحرب محرضين على العدوان وسفك الدماء، بقلوب مظلمة امتلأت حقدا وقفوا خلف العصابات الهمجية والمرتزقة، ينفثون الفتنة والخراب بتنويعات مختلفة.
إن تقبلوا نعانق، ونفرش النمارق، أو تدبروا نفارق، فراق غير وامق.
ولكنهم لم يفارقوا، بل على غرار جيشهم قدموا الانسحاب التكتيكي، معيدين تمركزهم في المشاعر الرومانتيكية يدعون للسلام والمحبة والأخوة، فيكشف مؤسس شركة الراية البيضاء للسلام المحدودة عن صدمته من مشهد ليبي يقتل ليبيا، مذكرا بأن القاتل والمقتول في النار، أما القطب الصوفي الذي يظهر كقطع الليل في أزمنة الحروب، هابطا من برج خليفة إلى حضن خليفة، ملتحفا عباءة القبيلة فارتجل خطبة نثر فيها بسخاء بركاته على الحاضرين، وصب لعناته على أهل الظلام والخوارج وشياطين الأنس، متوعدا الضالين في ركن الظلمات الغربي بالدين الحقيقي في وجه الزيف والباطل، مشيدا بالشيوخ الذين يعطفون على القطط ويعطفون على الحيوانات. وقد فسر العارفون بأسرار الصوفية إخراجه للقطط من ملاك الحيوانات بأنه تخصيص لمخلوق يحمل رمزية غنوصية تخص التناسخ، فالأسطورة تقول، إن القط ينطوي على سبع أرواح. روح للسفارة، وأخرى للقتال، وثالثة للسلام، ورابعة للقبلية، وخامسة للرياسة، وسادسة للغدر، وسابعة للمواء.” يقينا جيشنا ينتصر، قال قطب التصوف بثقة عالية، لأن الباطل يزهق وأن الحق لابد وأن ينتصر” فمن انتصر ومن هزم؟ وهل أدرك أين كان يقف بالأمس؟ فاضت روح السلام فأعاد القطب تمركزه في مدارج الارتواء من الدماء والزهد في رؤية الموت، داعيا، وهو يغض بصره عن مفاتن حسناء العربية إلى التواضع محبة في الله والوطن.
ولم ينتظر المحلل الوردي انقشاع غبار المعارك في ترهونة لتتضح مجالات الرؤية وتكتمل الصورة قبل تحليل الموقف، وسارع بالدخول في جدال عميق مع محاوره ليقنعه بضرورة التمييز بين الانسحاب والفرار، مسهبا في الشرح، الفار سيترك وراءه جثثا وأسلحة وآليات، أما المنسحب تكتيكيا فلا يترك خلفه شيئا، فالانسحاب التكتيكي تم بمهارة عسكرية احترافية وكانت عملية ناجحة بامتياز. عجلة المحلل أكدت أن العجلة من الشيطان وأحيانا من رضوان.
وبعد صولات عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي كرر فيها الدبلوماسي السابق هذيان المسماري بمنتهى الإتقان، حتى إذا أدركته الهزيمة العسكرية سقط في وادي الظلام مطلقا لسانه يقذف المحصنات في طرابلس، وحين غرق في غياهب اليأس قرر ولوج الانسحاب التكتيكي من أوسع أبواب فبراير، صادحا بالاعتراف. نحن جميعا ضحايا. كلفتنا الحرب خسائر في الأرواح والممتلكات. فلنوقف سفك الدماء.
وعلى صفحة شهيرة تناوب ثلاثة من بقايا كهنة معبد الأبدية على النفخ في المزمار طربا لطلقات المدافع تعوي في ليل طرابلس، مبشرين الأنصار باقتراب يوم الحسم العظيم مطابقا لما جاء في فلم الرسالة، وعزف كبيرهم سيمفونية مشهد الفتح المبين في العشرين من رمضان تيمنا بفتح مكة، فتدخل القوات المسلحة العربية الليبية من سبع محاور، شامخة تتقدم بثبات نحو ميدان الشهداء لتعيده سيرته الأولى، بينما يصدح صوت المشير يزلزل الأرض تحت أقدام الخوارج. لبيك طرابلس لبيك، وينتشر الجند لتعقب رائحة البريوش، وبخفة فهد أسمر سوف يصعد ونيس فوق السراي ليرفع الأذان. مضى رمضان الأول وتبعه الثاني وما يئس المزمار من ضرب المواعيد حتى أخذته الصاعقة فخر مغشيا عليه ثم أفاق ذاهلا يتساءل. وصل الحل إلى أبوسليم فكيف انسحب ألف ميل؟
الحرب مقامرة كبيرة يسهل إشعالها ويتعذر التنبؤ بمآلاتها ونهايتها، ومهما توافرت لها من أسباب النصر لا يطرح العاقل احتمال الهزيمة، ولكن المؤيدين والمحرضين لم يحسبوا حساب الهزيمة، كانوا واثقين من النصر، ولهذا كانت صدمتهم كبيرة بالهزيمة، أما الأكثر فداحة فهو جهلهم بعواقبها وتداعياتها ما يعكس ضحالة قدراتهم الفكرية والمعرفية، فالحروب الأهلية، كما يرويها التاريخ، شديدة التعصب تفتك بالأبرياء وبغير الأبرياء، فضلا عن كونها ثقبا أسود للتدخل الخارجي خاصة إذا اندلعت وحمي وطيسها في زمن تحول واضطراب دولي وإقليمي، فتغدو البلاد بكل مقدراتها ورقة في الصراع الدولي، وسيفرض هذا الصراع المديد حالة التوازن ويزداد تعقيدا بتعدد اللاعبين.
ماذا يحدث إذا أخطأ معلم الفصول الدراسية الأولى؟ سيتكرر الخطأ نفسه في عقول وكراسات كل التلاميذ، من دون أن يعترض أي منهم، إذ يقصر مستوى نموهم العقلي عن إدراك الخطأ، بل إن فكرة ارتكاب المعلم للخطأ غير واردة مطلقا في أذهانهم، وهكذا يقود المعلم تلاميذه إلى حيث يشاء.
لم يقف المحرضون على الخراب لحظة مع أنفسهم لينظروا إلى ما وصلنا إليه، إذ شحذوا حناجرهم وأقلامهم بعد تهديد الرئيس المصري بالدخول المباشر في الحرب، وعادوا لخوض معركة جديدة ضد التدخل التركي، وكأنه لا مشكلة في التدخلات الأخرى؟ وكأننا سنستعيد بلادنا فور مغادرة تركيا؟ لا يدركون أن التدخل الروسي والفرنسي أخطر بمراحل من التدخل التركي المعلن عبر وثيقة مكتوبة سجلت في الأمم المتحدة لتفصل فيها برضى الطرفين إذا وقع خلاف، وأن الخطر المتربص بوجودنا يستوجب الاتحاد في مواجهة كل التدخلات، تماما، مثلما لا يدري تلاميذ الفصول الأولى أنهم يكررون مرة أخرى خطأ معلمهم.