… وهكذا انتهت مغامرة المُستبِدّ المهزوم، انتهِت بنتيجة كانت معلومةً يقيناً أنه لا عودة لحكم العسكر بعد التضحيات الجسام والدماء الطاهرة والأرواح الزاكية التي بُذلت لنتحرّر من الاستبداد والطغيان، ورغم أن هذه النتيجة كانت معلومة ومحسومة، فإن استكبار حفتر وشبَقه بالسلطة حملَه على أن يورِّط الليبيين في هذه المغامرة الآثمة التي استمرّت أربعة عشر شهراً بفصولها الثقيلة والمُرهقة، وليندحِر بعد ذلك -وكما عُهِد- مهزوماً مخذولاً مذموماً قد خلّف من ورائه تركةً ثقيلةً من الدماء والأشلاء والدمار والجروح الغائرة في جسد هذا الوطن.
أربعة عشر شهراً كشفت عن أقبح وجوه الاستبداد التي كان يخبئها حفتر لليبيين، وأسقطت كلّ شعاراته الزائفة والباطلة، فالإرهاب الذي يدّعي محاربته حاربَ أبطال البنيان المرصوص الذين استأصلوا شأفته من سرت، والمؤسسة العسكرية التي يدّعي بناءَها انفضح زيفها بشراذم المعربدين والسكارى الذين أطلقهم في ضواحي العاصمة طرابلس يقصفون أحياءها وينهبون بيوتها وينكّلون بأهلها، والكرامة التي زعم صونها أهدرها بأن استجلب كلّ مرتزق خسيس من تشاد والسودان وروسيا، وجعل من دماء الليبيين رزقاً لهؤلاء يعتاشون بإهداره ويترزقون من سفكه، ثم حكّم هؤلاء المرتزقة في رقاب المدن التي آثر الخنوع لهذا المستبد، والتي لا زال بعض أهلها يحلمون بأن تدور عجلة التاريخ إلى الوراء، فيستعيدوا عبوديتهم الوادعة التي استمرؤوا مذلتها لأكثر من أربعة عقود، وأنّى لهم هذا!
أربعة عشراً شهراً من صدّ هذا العدوان الأثيم كانت كفيلةً بأن تفضح المواقف الدولية، وتُعلن بالانقسام في مواقف الدول، وليكون عبث الساسة ومرواغاتهم فاقد التأثير مفضوح الزيف، ولتكتسب الشرعية حليفاً وشريكاً قلب المعادلة وبدّد أوهام الاستبداد باقتحام العاصمة والسيطرة عليها، وليعود محور الشرّ العربيّ (مصر والإمارات والسعودية) بخيباتهم التي اعتادوها وفشلهم الذي تعوّدوه.
حرب حفتر على طرابلس رغم الآلام التي خلفتها والجراح التي أحدثتها، أكّدت أن روح ثورة فبراير لازالت كامنة في ضمير هذا الوطن تحرِّك كيانه وتلهبُ وجدانَه ليدافعَ عن أهم مكتسباته “الحريّة”، ولا يقبلَ بها بدلا أو يساومَ عليها، وما صمود رجال بركان الغضب في تلك الأيام الثقيلة التي بلغت فيها القلوب الحناجر إلا أصدقُ برهان وأوضح حجّة على ذلك، واستثمار هذه الروح النابضة الدافعة لاستكمال طريق النهوض وتقويض مشروع الاستبداد عن سائر الوطن هو آكد الواجبات اليوم.
إن روح فبراير اليوم أكثر وعياً بواقعها وإدراكاً لسبل المواجهة التي لن تنتهي بانتهاء الصراع العسكري، بل هناك الصراع السياسي الذي ستكون الطريق فيه أشق والتحدي فيه أشد، ولا بد أن ندرك بأن تماسك الجبهة الداخلية والمحافظة على المكاسب السياسية والعسكرية هما أهم ما ينبغي الحفاظ عليه والتمسّك به، أما التنازع والتنافس قبل قطف الثمار وتحقيق الاستقرار فلن يكون إلا بمثابة إعطاء مشروع الاستبداد الفرصة أن يُبعث من جديد وإن في شكل آخر أو طور مختلف.
وإذا كان كلّ صراع مهما اشتدّت جولاته وطالت مدته ستكون نهايته على طاولة السياسة، فلابدّ من حراكٍ مدنيّ جادّ يدعم الأجسام السياسية ويعطيها الزخم ويضغط عليها لتحافظ على مسار الدولة المدنية، وتسرع بإنجاز الاستحقاقات المؤجلة، وهذا مجال لا ينبغي الاستخفاف به أو التفريط فيه، فإنه مدخل للعابثين ووسيلة للمفسدين، والسعيد من وُعظ بغيره، والعاقل من تبصّر العواقب ونظر إلى المآلات.