“جنرالات خونة! انظر بيتي ميت انظر إسبانيا محطمة فمن كل بيت ميت تنطلق معادن مشتعلة بدلا من الورود ومن كل طفل ميت تصعد بندقية ذات عيون ومن كل جريمة تولد رصاصات ستستقر يوما ما في قلوبكم تعال انظر الدماء تسيل في الطرقات” “بابلو نيرودا” من قصيدة “الحرب الأهلية الإسبانية” لا يمكن للكاتب أو الشاعر أن يصمت أو يقف محايدا إزاء الانتهاكات والجرائم التي ترتكب تحت أي شعارات ضد أي شعب وفي أي بلد في العالم، إن الكاتب والشاعر أو المثقف العضوي بتعريف الفيلسوف الإيطالي “غرامشي” يستجيب في هذه اللحظة لضميره الإنساني، فهو الحارس للقيم الأخلاقية، بصرف النظر عن هوية الجلاد والضحية، حتى إذا كان الجلاد هو جيش بلده والضحية شعب مختلف عرقيا وثقافيا فموقفه لن يتغير؛ إذ تسمو قيم الحق والعدل وحقوق الإنسان على كل الانتماءات السياسية والوطنية.
ثمة أمثلة عديدة عن مواقف لكتاب كبار تصدوا بكتاباتهم وأصواتهم لحكومات بلدانهم إزاء الانتهاكات المروعة والظلم والقمع الذي اقترفته ضد شعوب أخرى زمن الحرب والاستعمار، ومن دون تجاهل مواقف معاكسة أيدت الغزو والقتل مثل موقف الكاتب والروائي الأمريكي “جون شتاينبك” المؤيد لغزو بلاده لفيتنام، أو مساندة الفيلسوف الألماني “هايدغر” للنازيين، ولكنها الاستثناء الذي يثبت القاعدة، فأغلب المثقفين في عصرنا كانت لهم مواقفهم العظيمة ضد العدوان والقتل والقمع والفاشية والدكتاتورية.
الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير “سارتر” كان يحرض ويقود المظاهرات مطالبا بإنهاء احتلال فرنسا للجزائر ومنح الشعب الجزائري حق تقرير مصيره، وكان يكتب البيانات والمقالات وينشرها في مجلة “الأزمنة الحديثة” ضد الانتهاكات التي ترتكب في الجزائر على يد المستعمر الفرنسي.
ثمة حادثة شهيرة في التاريخ المصري عرفت بحادثة “دنشواي”، وفيها اعتدى جنود بريطانيون على قرية دنشواي وحاكموا الفلاحين الذين تصدوا لاعتداء الجنود على ممتلكاتهم وأعراضهم، وبعد محكمة صورية أعدم أربعة فلاحين وحكم على البقية بالسجن، وأثارت الحادثة الكاتب البريطاني “جورج برنارد شو” فكتب سلسلة مقالات يندد فيها بسلوك جنود بلاده ويدعو للتحقيق في الحادثة حتى وصل الأمر إلى مجلس العموم، وبعد التحقيق المستفيض أُقيل المندوب السامي البريطاني لمصر اللورد “كرومر” وأفرج عن الفلاحين السجناء، وكتب “برنارد شو” ضمن ماكتبه عن الحادثة : « إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تريد أن تحكم العالم كما فعلت في دنشواي فلن يكون على وجه الأرض واجب سياسي مقدس وأكثر إلحاحا من تقويض هذه الإمبراطورية وقمعها وإلحاق الهزيمة بها».
لقد دافع الكاتب الكبير عن الفلاحين المصريين وحوّل الاعتداء عليهم إلى قضية رأي عام في بريطانيا؛ لأن هذا الموقف متسق تماما مع القيم الإنسانية التي يؤمن بها ضد ظلم فادح ارتكبه جنود الإمبراطورية البريطانية.
وقدم الكاتب والفيلسوف الفرنسي “ألبير كامي” استقالته من منصبه في منظمة اليونسكو عام 1952 احتجاجا على قبول عضوية إسبانيا في الأمم المتحدة زمن حكم الدكتاتور “فرانكو”، فلا يمكن لكاتب ملتزم مثله أن يستمر في العمل بالمنظمة وهي تغض بصرها عن الجرائم المروعة التي ارتكبها الدكتاتور، ليس ضد مواطنيه الفرنسيين، وإنما ضد الشعب الإسباني.
أما مواقف الكاتب والروائي العالمي الكولومبي “غابرييل غارثيا ماركيث” من القضية الفلسطينية والبيانات التي أعلنها نصرة للشعب الفلسطيني فهي أكبر من سطور مختصرة في هذا المقال، رغم خطورة هذا الموقف وتبعاته؛ لأن المنظمات الصهيونية واليمينية في الغرب تتربص بكل المثقفين لتشهر في وجوههم قوانين معاداة السامية وتفتح عليهم لهيب المنابر الإعلامية لتنال منهم، كل هذا التربص من الدوائر الصهيونية واليمينية لم يمنع الكاتب والفيلسوف البريطاني “برتراند راسل” من مساندة الشعوب العربية ضد الاعتداءات الإسرائيلية، بإصدار البيانات المنددة بالعدوان الداعية إلى مساندة الشعوب العربية ضد هذه الاعتداءات.
هذه مجرد عينة من مواقف بعض الكتاب العالميين ضد الظلم والاعتداء؛ نصرةً للحق والعدل حتى لو كانت هذه المواقف ضد حكومات وجيوش بلدانهم، بإعجاب وفخر أطالعها متأسفا في الوقت نفسه على بعض ما أطالع وأسمع من مواقف لشعراء وكتاب وفنانين نظرنا لهم يوما بفخر وقرأنا بشغف قصائدهم ومقالاتهم، يصمتون عن الجرائم المروعة التي ترتكبها عصابات مسلحة تسمي نفسها جيشا وطنيا، أو يختلقون الحجج والمبرارات لها، فيكتب شاعر وكاتب داعيا إلى صرف النظر عن الانتقادات الموجهة لهذا«الجيش»؛ لأن له تراتبيته، وكأن وجود هذه التراتبية كاف للاعتراف به جيشا وعدم توجيه الانتقاد لممارساته الوحشية، وعلى هذا الأساس ما كان ينبغي للمثقفين الأمريكيين ونشطاء حقوق الإنسان إدانة الجيش الأمريكي على ما اقترفه من جرائم ضد السجناء العراقيين في سجن “بوغريب”، لتوفر شرط التراتبية من القائد الأعلى “جورج دبليو بوش” مرورا بوزير الدفاع “رامسفيلد” حتى آخر جندي في هذا الجيش، ويرى في كل خصوم هذا الجيش المزعوم مليشيات، رغم أن بعض الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها هذا الجيش لم تجرؤ أي مليشيا على ارتكابها بل حتى تنظيم “داعش” لم يفعلها؛ إذ لم ينبش “داعش” قبور خصومه ليمثل بالجثث ويضرم فيها النيران، في حين يلتقط الجنود ومن تبعهم صور “السيلفي” على خلفية مشهد وحشي يعود لقرون الهمجية والبربرية الغابرة، ويهمنا هنا أن نعرف رأيه في مليشيات “الكاني” بترهونة ومليشيات “دعاب” في غريان، إذ كانت دفاتر حفتر تصنفها في خانة المليشيات، وبعد إطلاقه عملية “الفتح المبين” رأيناها في مقدمة الصفوف في الحرب على طرابلس، فما الذي تغير؟ بأي سحر انقلبت المليشيات إلى جيش والمجرم القاتل إلى ضابط برتبة نقيب؟ ولا يرى ضيرا في استعانة الجيش بقوى دينية تدعمه في حربه ضد الإرهاب، وكأن هذه القوى التي تحركها فتاوى مشبوهة من الخارج وتعتبر كافة خصومها خوارج ليست إرهابية، تماما مثلما يرى داعش في كل مخالفيه كفارا مرتدون.
أليس تكفير الآخر هو بداية الجريمة والإرهاب؟ ماهو العلاج الأمثل للمرضى المرتدين وفقا لفكر تنظيم داعش؟ وماذا كان الخيار مع الخوارج كما اعتمد عبر القرون الأولى للإسلام؟ هل ثمة فارق جوهري فكرا وممارسة بين داعش و السلفيين في قوات حفتر أم أن الإرهاب حمّال أوجه؟
ومن ثم يصبح جهادا مشروعا ما دام يقاتل مساندا لجيش حفتر ضد خوارج! إن صمت المثقف مبرَّر إذا أحس بأي خطر قد يهدد حياته أو حياة أسرته، فليس بالضرورة أن يلعب كل المثقفين دور البطولة ضد قوى البغي والطغيان بصرف النظر عن الشعارات واللافتات التي ترفعها، فهذا الدور يقوم به عادة الأفذاذ من النخبة الذين يمتلكون معرفة كافية بالكارثة التي ستحل على الجميع إذا تطور الصراع السياسي إلى حرب أهلية شاملة، باعتبارها حربا شديدة التعصب لا حياد فيها، ولا مندوحة عن تطورها إلى صراع إقليمي ودولي، بالتدخل المباشر من دول وغير المباشر من فاعلين دون الدول كالجماعات الإرهابية وشركات المرتزقة، مدركين أن حسمها متعذر غالبا ومع امتدادها وتطورها تصبح نهايتها مسألة دولية معقدة تخضع لحسابات وأجندات متعارضة، مؤمنين أن التوافق وحلول الوسط، مهما كانت مرارتها، أفضل مليون مرة من إشعال الحريق الهائل، فكل الصراعات السياسية الداخلية تنتهي بتسويات سياسية يجري فيها تقاسم السلطة والنفوذ سواء قبل الحرب أو بعدها، فما جدوى الحرب والقتل والدمار إذا؟
في زمن الانقسام ليس غريبا ميل النخب السياسية إلى طرف تنتمي له فكريا أو طائفيا أو قبليا، فتسخر مواقفها وتصريحاتها لمصلحته متجاهلة تجاوزاته وانتهاكاته بينما تدين وتستنكر وترفض نفس التجاوزات والانتهاكات حين يقترفها الطرف الآخر، ولكن هذه الازدواجية تعكس السقوط الأخلاقي حين تصدر عن المثقف، لأن المسافة شاسعة بين التزام المثقف وبراغماتية السياسي، كأن يلعن المثقف قتلة النائب في المؤتمر الوطني السيدة “فريحة البركاوي” عليها رحمة الله، ويصمت عن خطف وربما قتل النائب في البرلمان السيدة “سهام سرقيوة”، ويدين القصف الإجرامي على الأهالي في “الأبرق” ومطارها المدني، ولا يندد بقصف الأهالي في “سوق الجمعة” والمطار المجاور، ويعظم البطولات والتضحيات ضد الإرهاب، ولكنه يصادر بطولات وتضحيات أبطال “البنيان المرصوص” ضد داعش ويلحقهم بالمليشيات؛ لأنهم من الضفة الأخرى للوطن، أما الدرك الأسفل من السقوط الأخلاقي والإنساني فهو تحول المثقف إلى ظهير للمجرمين بتأييد عصابات ارتكبت ولم تزل أكبر الجرائم في حق الوطن والناس بذريعة محاربة الإرهاب، فتجلب المرتزقة والسلاح الحديث، وتحاصر العاصمة، وتفتح الأجواء للطيران الأجنبي لكي يقصف الأبرياء ويدمر المدن، وتدخل البلاد في صراعات المحاور الإقليمية والتنافس الجيوسياسي الدولي لتغدو ملعبا لشركات المقاولات العسكرية والعصابات الدولية ومختبرا للأسلحة الجديدة، وتتضح أخيرا نوايا زعيمها بطلب التفويض ثم زعم الحصول عليه لحكم البلاد، هل يختلف هذا الإجراء عن طلب أحدهم البيعة ليحكم باسم الله؟
ليس مهما أن يلج هذا المسلك عسكري يرصع بدلته بالنياشين والأوسمة أو شيخ بجلباب وعمامة تعود لزمن القرن الرابع فالجوهر واحد، يرنو إلى نفس الغنيمة.
الكاتب: عبدالله الكبير