من الأخبار القليلة التي استطاعت اختراق هيمنة أخبار كورونا هو بلا شك تقدم قوات حكومة الوفاق في طرابلس وقدرتها على دحر قوات حفتربسرعة في أماكن أساسية، خاصة صرمان وصبراتة بما وفر إمكانية خط ممتد من طرابلس إلى راس جدير على الحدود التونسية. التطورات فيليبيا تشد التونسيين لأسباب بديهية، وزادتها تصريحات وزير الدفاع التونسي عماد الحزقي منذ أسبوع؛ أسبابا إضافية لإثارة الجدل حولالعلاقة التونسية الليبية.
كانت المكالمة الهاتفية بين رئيس الجمهورية وولي العهد الإماراتي في هذه الظروف بمثابة صب الزيت على النار، ونشأت هكذا دون أدلة سوىتغريدات بعض الحسابات على تويتر؛ مؤامرة في اعتقادي وهمية (لأسباب سأعرضها لاحقا) بأن المكالمة كانت تهدف لضمان مساعدة تونس فيتهريب قيادات إماراتية عالقة في ليبيا.
مما لا شك فيه أن التصريحات الأخيرة لوزير الدفاع حول ليبيا، وتحديدا وصف القوات الموالية لحكومة الوفاق في طرابلس برئاسة السراج بأنها“مليشيات” غير موفقة، للأسباب التالية:
أولا، تم التخصيص على وصف القوات التي تحرس معبر راس جدير (التابعة لزوارة التي تربطها بتونس خاصة روابط تاريخية واجتماعية وثيقة) بذلك، في حين أنها متعاونة طيلة السنوات الماضية مع الجانب التونسي خاصة الأمني منه. وهي تعمل كذلك تحت إشراف حكومة الوفاق المعترفبها دوليا، والتي تتعامل معها تونس بصفتها الحكومة الرسمية.
ثانيا، حتى من زاوية تكتيكية، من الغريب أن تصدر هذه التصريحات عند اندحار قوات حفتر بشكل واسع في المنطقة الغربية وسيطرة قواتحكومة الوفاق على مدن استراتيجية حتى للأمن التونسي، مثل صبراتة، بما جعل حفتر محاصرا في بعض الجيوب التي تبقى مهمة، خاصةبسبب قربها من طرابلس، والتابعة له أساسا عشائريا مثل ترهونة.
السؤال الحقيقة: ما الذي يدفع لتصريحات بهذا المعنى في حين أن المعطيات أعلاه معروفة، وأننا في هذا الظرف الحساس نحتاج أقل استفزازاتممكنة للجار الليبي، ولا تحتاج قواتنا العسكرية المشاركة في جهد مواجهة كورونا أي شيء جديد يشغلها عن ذلك؟
كان رئيس الجمهورية مدعوا لتعديل المسار وإشعار وزير الدفاع بذلك، نحو موقف أكثر توازنا في سياق المصلحة العليا لتونس، ومتماهيا معالموقف الذي عبر عنه سابقا ومرارا، أي الاعتراف بالحكومة التي تتمتع بغطاء شرعي دولي.
وفعلا استقبل الرئيس بعد هذا الجدل على التوالي وزيري الدفاع والخارجية، ليؤكد للأخير ضرورة التمسك “بثوابت تونس في الملف الليبي“. ثمهاتف رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، للتأكيد على عدم تغير الموقف الرسمي التونسي، ودعم حكومة الوفاق. من الواضح أنه تصحيحللتصريحات التي أطلقها وزير الدفاع، والتي انتقدها الكثير منا. الرجل (الرئيس) أثبت أنه عندما يقع خطأ يحاول أن يصلح.
في ذات السياق، هاتف الرئيس في الأيام الأخيرة الأمير القطري، في إشارة إلى تمسكه بتوجهه في السياسة الخارجية، أي منهجيته “المحايدة“.
نعود الآن إلى تداعيات اندحار حفتر على الحدود التونسية. فمما لا شك فيه أن قاعدة “الوطية” معروفة سابقا بأنها مركز عملياتي ينشط فيهداعمون أجانب لحفتر، لكن توجد شكوك حول بقاء هؤلاء فيها بعد التطورات الأخيرة، حيث نفى مراسلون إعلاميون ذلك في الأيام الأخيرة. لكنحتى لو بقي بعض هؤلاء هناك، فإن الاتصال بالرئيس التونسي لن يحل المشكل، بدءا بأن قيس سعيد سينأى بنفسه عن التورط في أي عمليةتهريب، لسبب بسيط هو حرصه الشديد للبقاء على “الحياد” في مايتعلق بالصراع في الخليج.
من الواضح أن الإماراتيين في وضع صعب في ليبيا، إذ نزلوا بثقلهم لتحريض حفتر على تجنب المسار التفاوضي والتصعيد العسكري ضدطرابلس ولم يضعوا حسابا لهذا الانهيار. لم يروا بما فيه الكفاية أن حفتر لم يحسن التعامل مع التعقيدات الاجتماعية في المدن التي سيطر عليهافي المنطقة الغربية، وخاصة حل التناقضات بين المجموعات المتنافرة، لا سيما المحسوبة منها على “الخضر“.
وما زاد في تعقيد الوضع هو تراجع التدخل الفرنسي، خاصة بعد تركيز باريس على مواجهة حرب كورونا والتي مسّت أحد أهم مفاصل قوتهاالعسكرية البحرية وأحد أذرع تدخلها الاستعلاماتي والجوي الخارجي، أي حاملة الطائرات شارل ديغول.
بقيت الإمارات تقريبا منعزلة في ليبيا عدا عن أنها هي أيضا متضررة اقتصاديا بشكل كبير من تراجع أسعار النفط وتأثيرات كورونا. إضافة إلىذلك، توجهت أبو ظبي في الفترة الأخيرة للاستعانة حتى بإسرائيل، مثلما ينقل تقرير مراسل موقع “ميدل إيست آي“، في توفير أسلحة وتقديمتدريبات لقوات حفتر. الدعم الإسرائيلي، الذي تم تسهيله عبر الطرف المصري حسب التقرير، تمثل تحديدا في نظام دفاع جوي بما يعكس تطورقدرات حكومة الوفاق جويا على أثر تزايد الحضور التركي وتكثيف دور الطائرات التركية بدون طيار. بيد أن هذا الدعم يبدو أقل من أن يؤثرجوهريا وربما متأخر جدا.
من الواضح أن هناك مأزقا إماراتيا في ليبيا، في “الوطية” أو غيرها. لكن لنكن واضحين، لن يكون قيس سعيد وتونس طرفا في حل هذا المأزق.
المصدر: عربي 21