في مثل هذا اليوم من السنة الماضية شن حفتر هجومه على طرابلس، وقد ظن أن عمليته العسكرية لن تستغرق وقتا طويلا، أياما معدودات ويحكم سيطرته على العاصمة ومن ثم سائر البلاد، ولكن خاب ظنه وصدم المغفلون من أنصاره بعجزه عن اقتحام العاصمة وتوالي هزائمه، وقد وعدهم بالفتح المبين ودخولهم ظافرين إلى قلب ساحة الشهداء، ليرفعوا رايات النصر ويتقيأوا أحقادهم وغلهم وكافة أمراضهم على أهلها، في سلوك مألوف واستباحة معهودة عند العصابات التي يقودها، سبق أن رأيناها في بنغازي ودرنة.
ليس تجنيا ولا مجانبة للصواب أو تعديا على الحقيقة حين يوصف حفتر بالمهزوم أبدا، في الماضي والحاضر والمستقبل، قصته في حرب تشاد معروفة وموثقة بكل تفاصيلها، وبعد إنقاذه من الأسر تحول إلى عميل رخيص لدي المخابرات الأمريكية، وجرى إعداده ليكون بديلا محتملا للقذافي، ولما تفجر الربيع العربي أعادوه إلى ليبيا في إطار الاستراتيجيات الأمريكية لاحتواء التحول في مناطق نفوذهم، وخاض أول حروبه في ليبيا ضد المجموعات المسلحة التي وقفت ضد مشروعه، بضع مئات قاوموا ببسالة منقطعة النظير في مساحات محدودة فيما كان الدعم السخي يتدفق عليه من عدة دول، كميات هائلة من الأسلحة المتطورة والمعلومات المخابراتية الدقيقة، ومساندة مباشرة من القوات الخاصة الفرنسية، ومع ذلك كان بحاجة إلى عدة سنوات حتى يحكم سيطرته على الشرق، وبقياس ماتوفر له من دعم على كل المستويات مقابل قلة العتاد العسكري والإمكانيات المادية لدى خصومه لا يستقيم اعتبار تفوقه على مجموعات صغيرة محاصرة تفتقد حتى الماء والغذاء نصرا.
خضوع أهل شرق البلاد له خوفا من بطش جلاوزته أو حتى عن قناعة بقدراته، وتواطؤ شيوخ القبائل لتمكينه من الموانئ النفطية والانقلاب على ابن قبيلتهم الذي تحول في لحظات من روبن هود برقة إلى مجرم، وضعف القيادات التي أفرزها الاتفاق السياسي، زين لحفتر الزحف جنوبا ثم غربا لإكمال السيطرة على البلاد، وزج بأبناء القبائل المؤيدة له في محرقة عظيمة على أسوار طرابلس.
في لحظة غادرة أعلن في تسجيل صوتي متهافت عن الفتح المبين موقدا النار ليمتد لهيبها على طول خط الجبهات، وبعد ساعات قليلة وقعت الدفعة الأولى من قواته في الأسر وتطلب نقلهم إلى مأمنهم أكثر من حافلة، (مجموعة الصاكو البودري)، ثم تتابع أسر المجموعات من قواته، فلا يكاد يمضي أسبوع من الحرب إلا وفيه أسرى بعضهم ضباط برتب رفيعة، وهذا من مكر التاريخ فمن يقودهم أسير مخضرم يكون مصير الكثير منهم الوقوع في الأسر.
من كل المدن الحرة تقدم سادة الميادين والملاحم؛ للدفاع عن طرابلس منزلين بالمهزوم أبدا سلسلة مترابطة لا انفصام لها من الهزائم، وتفرقت قواته قتلا وأسرا وهروبا فعزز بالمرتزقة من كل البقاع الرخيصة، جلب عصابات فاغنر في صفقة مع روسيا وعصابات جنجويد من السودان وعصابات من تشاد وأخيرا مرتزقة على أجنحة الشام، قوات وإمكانيات هائلة لو توفرت لقائد عسكري يملك نصف موهبة في القيادة لوصل إلى طنجة ماضيا في فتحه حتى يخوض في شاطئ بحر الظلمات مزهوا بانتصاراته، لكن المهزوم أبدا لن يفر من قدره، ومثلما دشن حياته العسكرية بهزيمة نكراء على يد قوات أقل منه عتادا لكن عقيدتها راسخة في حرية وطنها، سيمنى في معركته الأخيرة بهزيمة أخرى على يد قوات هي أيضا أقل عتادا وتسليحا ولكنها تأبى أن تفرط في حريتها وكرامتها.
من العسير على المهزوم أبدا وأنصاره من المغفلين والنفعيين وبقايا يتامى العهد القديم استيعاب التحول الكبير والتغير الحاد والعميق الذي أصاب العالم، يقصر أدراكهم عن فهم طبيعة العصر الذي ولجته البشرية بعد انهيار جدار برلين وسقوط أصنام الحكم الشمولي، وتقدم الإنسانية نحو زمن الديمقراطية والحرية، زمن جديد لم يعد ثمة مكان فيه للقائد الأوحد الملهم إلا في المتاحف، ومهما طال أمد الحرب لن ينتصر المهزوم أبدا ولن يصل إلى مايرنو إليه، فقد مضى زمنه، ماعاد بوسعه غير الإسراف في القتل والإمعان في التدمير والتخريب، فالهزيمة هي قدره المحتوم وستكون قاسية ومروعة تلائم حجم التغير الخطير الذي تعبره المنطقة العربية في هذه المرحلة التاريخية.