تبدو كأنها معجزة ألمانية جديدة تولد في قلب المأساة التي يعيشها العالم، فالعلماء يتساءلون: لماذا يبدو معدل الوفيات في ألمانيا من جراء فيروس كورونا أقل كثيراً من دول العالم الأخرى، ومن ضمنها دولة غربية متقدمة وجارة لبرلين؟
ففي جميع أنحاء العالم توفي أكثر من 4% من المرضى.
ولكن في إيطاليا الوضع أسوأ؛ إذ توفي 9.5% من الأشخاص الذين ثبتت إصابتهم بالفيروس، وفقاً للبيانات التي تم جمعها في جامعة جونز هوبكنز. النسبة بفرنسا 4.3%.
لكن في ألمانيا تبلغ النسبة 0.4%، أي أن نسبة الوفيات بإيطاليا تعادل أكثر من 20 ضعف ألمانيا.
فبينما يموت 95 من كل 1000 مريض بإيطاليا، يموت في ألمانيا 4 مرضى من بين كل 1000.
في مساء 25 مارس/آذار 2020 سجلت ألمانيا 35 ألفاً و740 إصابة، تجعلها الخامسة من حيث عدد الإصابات بعد إسبانيا وقبل إيران، في حين سجلت فقط 186 حالة وفاة جراء المرض، وهو ما يجعلها في مرتبة متأخرة من حيث عدد الخسائر في الأرواح.
قد يكون مفهوماً أن هناك فارقاً حضارياً وتكنولوجياً وفي الانضباط بين دول شمال أوروبا وجنوبها، لكن الفارق بين نسبة الوفيات الهائلة في إيطاليا، وبينها في ألمانيا، لا يمكن فهمه حتى لو كان بين دولة متقدمة وأخرى من العالم الثالث، لا بين دولتين جارتين تفصل بينها بضع مئات من الكيلومترات، خاصة أن إيطاليا أكثر دولة بجنوب أوروبا تقدماً ولديها نظام صحي يشار إليه بالبنان.
ولكن اللافت أن معدل الوفيات في ألمانيا أقل حتى من بريطانيا والولايات المتحدة.
الثلاثة الناجون من كورونا
هناك ثلاث دول لوحظ أن معدلات الوفيات فيها أقل بكثير من الحالات الأخرى.
هي: كوريا الجنوبية وسويسرا وألمانيا.
بالنسبة لكوريا الجنوبية، يرجع ذلك جزئياً إلى أن نسبة كبيرة من حالات الإصابة تحدث في فئة الشباب الأصغر سناً.
ولكن بالنسبة لألمانيا، يتم تشخيص Covid-19 في الفئة العمرية نفسها الشائعة، أي الأشخاص في منتصف العمر مثل البلدان الأخرى، ونسب الوفيات في ألمانيا تشبه المعدلات السائدة، أي تميل إلى الحدوث بين كبار السن.
ويقول البعض إن هذا وضع مؤقت، وتشعر السلطات الألمانية بالقلق من أنه في الأسابيع المقبلة، ستظهر موجة المرضى في ألمانيا أيضاً؛ وهو ما يؤدي إلى ارتفاع معدل الوفيات.
اختبارات واسعة النطاق
ألمانيا، مثل كوريا الجنوبية، تختبر وجود كورونا لدى سكانها بقوة منذ بداية الأزمة. ومن المرجح أن يحدد الاختبار العدواني الأشخاص المصابين بشكل جيد للغاية.
تلعب عوامل أخرى، مثل عمر المصابين وتوقيت تفشي المرض بألمانيا، دوراً في اختلاف معدلات الوفيات. لكن الاختبار على نطاق واسع، كان المفتاح في وضع ألمانيا الجيد فيما يتعلق بمعدل الوفيات.
لم تكن معايير الاختبار الأولية لألمانيا أوسع من معايير الاختبار الإيطالية. تم اختبار الأشخاص إذا كانت لديهم أعراض وكانوا في منطقة الخطر، أو إذا كان لديهم اتصال مع حالة مؤكدة. وتبين أن عديداً من الحالات الأولية لها روابط واضحة للسفر إلى الخارج.
وقد تم توسيع المبادئ المحددة لمعايير الاختبار، وتم تعزيز الاختبار في الأسابيع الأخيرة، وبالفعل قفز العدد الذي تم اختباره من 35000 في الأسبوع الأول من مارس/آذار إلى 100000 في الأسبوع الثاني، وفقاً للرابطة الطبية الألمانية. لا تتضمن التقديرات الاختبارات التي أُجريت داخل المستشفيات.
يقول بعض خبراء الأمراض المعدية، إن أكبر سبب لانخفاض الوفيات بألمانيا هو عمل ألمانيا في الأيام الأولى لتفشي المرض، وهو تتبع مجموعات العدوى واختبارها واحتوائها. وهذا يعني أن ألمانيا لديها صورة أدق لحجم تفشي المرض من الدول التي تختبر فقط المرضى الذين يعانون من أعراض واضحة أو المرضى الأكثر عرضة للخطر.
أي يفترض هذا الرأي أن الأمر ليس بسبب نجاح ألمانيا؛ بل هو نتيجة فشل الآخرين، أي إن جيران ألمانيا لم يكتشفوا الحجم الفعلي للمرض، وهو افتراض قد يعززه تصريح مسؤول إيطالي بأن معدل تفشي المرض في إيطاليا قد يكون أعلى بعشرة أضعاف المعدلات المسجلة.
يبدو أن ألمانيا، مع 31150 حالة في منتصف يوم الثلاثاء، كان التفشي فيها أكبر من فرنسا، مع 20149. لكن ارتفاع معدل الوفيات في فرنسا يشير إلى وجود مزيد من الحالات التي لم يتم تشخيصها هناك.
وبناء على هذا التفسير قد يكون تفشي المرض في فرنسا أكبر من تفشي المرض بألمانيا.
في المقابل، يرى البعض أن هذه الاختبارات الموسعة يمكن أن تكون قد أدت إلى تحريف للنتائج الألمانية والكورية الجنوبية، من خلال تحديد الأشخاص الذين لا يعانون من أعراض أو أعراض خفيفة، وهو الأمر الذي أدى إلى تضخيم أعداد المصابين؛ ومن ثم عدد المصابين الفعليين قد يكون أقل وقد يكون ذلك سبب ضآلة عدد الوفيات مقارنة برقم المصابين.
كفاءة النظام الطبي.. الممرضات هن الحل
من الناحية النظرية، ووفقاً لمعظم المعايير المعمول بها، لا توجد فروق كبيرة بين الأنظمة الطبية لدول أوروبا الغربية، من حيث عدد الأطباء وكفاءتهم، علماً أن أغلب هذه المؤشرات رقمية.
فمثلاً البنك الدولي يتتبع معلومات الرعاية الصحية بحسب البلد بناء على ثلاثة تدابير هيكلية، ويقاس عدد كل منها لكل 1000 من السكان: الأطباء والممرضات وأسرَّة المستشفيات.
ويتتبع البنك متغيرين آخرين ذوَي صلة هما: العمر الافتراضي لكل بلد، والإنفاق على الرعاية الصحية للفرد. ولا يُظهر أي من المعايير السابقة اختلافات كبيرة تفسر التباينات الهائلة في نسب الوفيات بين ألمانيا وبقية الدول ومنها إيطاليا.
ولكن لاحظ البعض مؤشراً للرعاية الصحية قد يكون له تأثير على التصدي لكورونا.
فمن بين الدول التسع التي لديها أكبر عدد من حالات الإصابة بـCovid-19، فإن الدولة التي لديها أعلى معدل تمريض لديها أيضاً أدنى معدل للوفيات بسبب المرض. توجد في ألمانيا 13.2 ممرضة لكل 1000 (وهو ما يعكس اتجاهاً لأعداد الممرضات العالية في جميع أنحاء شمال أوروبا) أعلى بكثير من البلدان الأخرى المصابة بشدة بكوفيد 19.
وقد يعكس هذا العامل أن الدول التي توجد بها أعداد أكبر من الممرضات تحقق ميزتين.
الأولى أن الممرضات وهن العمود الفقري لرعاية المستشفى (خاصةً وحدة العناية المركزة)، ضروريات لرعاية المرضى، وفي النهاية، للبقاء على قيد الحياة.
والثانية هي أن المستشفى أو البلد الذي يعرف قيمة الممرضات هو أيضاً مستشفى أو بلد يفهم كيفية تقديم رعاية صحية فعالة، ومن المحتمل أنه قام بعدد لا يُحصى من التعديلات الأخرى التي لم يتم قياسها لتحسين الجودة.
وقال عالم الأوبئة كارل لوترباخ، عضو البرلمان الألماني، إنه مع وجود أسرّة العناية المركزة والتهوية أكثر من معظم الدول الأوروبية الأخرى والإجراءات المبكرة لمنع انتشار الفيروس، لم ير ألمانيا تتحول إلى إيطاليا أو إسبانيا. ومع ذلك، فقد كان يدعو إلى قيود أوسع.
نظراً إلى أن الاختبار ليس عالمياً، وقد لا يتم تشخيص عديد من الأشخاص المصابين بالفيروس التاجي أبداً، فمن المستحيل التحقق من معدل الوفيات الحقيقي. لكن الخبراء يقولون إنه من المرجح أن يكون المعدل أعلى بشكل ملحوظ في دول مثل إسبانيا وإيطاليا، حيث تنهار الرعاية بينما كفاءة النظام الصحي الألماني، ونجاح البلاد في توسيع قدرته الاستيعابية قبل الأزمة قلل من الخسائر.
وقال: “أعتقد أنه مع مراعاة كل الأشياء، ستقوم ألمانيا بعمل جيد بشكل معقول في هذه الجولة الأولى من القتال الطويل”.
تتبُّع المرض جيداً منذ البداية
قال راينهارد بوسه، رئيس قسم إدارة الرعاية الصحية بجامعة برلين للتكنولوجيا، في البداية: “عندما كانت لدينا حالات قليلة نسبياً، سعينا للعثور عليها وعزلها، قمنا بعمل جيد جداً في ألمانيا في هذا الشأن.
في البداية، على الأقل، قامت السلطات الصحية الألمانية بتتبع مجموعات العدوى بدقة. عندما كان اختبار الشخص إيجابياً، استخدموا تتبع الاتصال للعثور على أشخاص آخرين كانوا على اتصال بهم ثم قاموا باختبارهم وحجرهم؛ وهو ما أدى إلى كسر سلاسل العدوى”.
تنقل صحيفة واشنطن بوست الأمريكية عن كريستيان دروستن، اختصاصي الفيروسات بمستشفى شاريتيه في برلين، قوله إنه “مقتنع بشدة” بأن القدرة التشخيصية العالية لألمانيا “ضمنت تقدماً كبيراً في الكشف عن الوباء”.
لكنه حذَّر من الرضا عن النفس، وقال إن معدل الوفيات سيرتفع: “نحن لسنا استثناء”.
قول علماء الأوبئة إنه من المهم النظر إلى تفشي المرض في ألمانيا على مرحلتين متميزتين.
مع الانتشار المجتمعي الواسع للمرض، أصبح من المستحيل تتبع سلاسل العدوى في بعض الحالات. قال بعض الأطباء إنه لم يكن لديهم خيار سوى إرسال الأشخاص الذين يسعون إلى إجراء اختبارات إلى منازلهم للاتصال بالخط الساخن، لأنهم يفتقرون إلى المعدات الواقية لإجرائها بأمان.
مع تزايد الحالات بشكل كبير، انتقلت السلطات الصحية إلى الأمر بالإبعاد الاجتماعية وحظر التجمعات . قيدت الولايات الفيدرالية التجمعات خارج المنزل على شخصين كحد أقصى.
هل قللت نوعية حاملي العدوى من نسب الوفيات؟
“تفشي المرض الألماني بدأ بأعداد كبيرة من الشباب والأشخاص الذين عادوا من العطلات”، حسب عالم الأوبئة كارل لوترباخ، عضو البرلمان الألماني.
كانت أجساد الشباب أفضل في المقاومة من كبار السن.
في المقابل ضرب الوباء السكان كبار السن بإيطاليا.
ويقول لوترباخ إنه يتوقع ارتفاع معدل الوفيات في ألمانيا، عندما تصاب شرائح المجتمع الأكثر ضعفاً.
وتكهن البعض الآخر بأن الحالات الأولى في ألمانيا كانت تضم عدداً من كبار السن الذين قضوا عطلة الربيع المبكرة في الذهاب للتزلج في البلدان التي اتضح أن لديها معدلات عالية من Covid-19.
ويرى البعض أن هذا قد يفسر أن الحالات الألمانية من كبار السن، كانت لديهم صحة جيدة بما يكفي للتزلج، أي إن صحتهم العامة جيدة، وهو ما يقلل من فرص افتراس المرض لهم.
العادات الاجتماعية.. الانغلاق الحميد
يرى البعض أن العادات الاجتماعية لها دور في مقدار انتشار الفيروس.
إيطاليا مجتمع معروف بانفتاحه، ومتانة علاقاته الأسرية، حيث تعيش أجيال مختلفة متقاربة أو تحت سقف واحد، يقال إنه في كثير من الأسر الإيطالية يعيش ثلاثة أجيال تحت سقف واحد أو في أماكن متقاربة، الأبناء والآباء والجدود.
كما أن الشباب الإيطالي يزور أجداده بوتيرة عالية.
يتطابق هذا التحليل مع مقولة يقولها علماء الاتصال والإعلام، وهي أن سكان البلاد المشمسة يقرأون وسائل الإعلام والكتب بوتيرة أقل، وأن طبيعة الجو والناس تجعل الاتصال الشخصي وسيلة لنقل المعلومات والتواصل بشكل أكثف من البلاد ذات الطقس البارد والغائم.
لأسباب كثيرة يمكن تفهُّم أنه ليس فقط انضباط الألمان هو ما أنقذهم حتى الآن، ولكن أيضاً تحفُّظهم الاجتماعي.
طبيبة ألمانية قالت لـ”عربي بوست”، إن إحدى نقاط قوة ألمانيا في الحرب ضد كورونا امتلاكها شبكة قوية من دور رعاية المسنين التي استُخدمت لمعاونة المستشفيات ورصد المرض مبكراً، يبدو أن كبار السن الألمان كانوا يقضون وقتهم وحدهم في دور المسنين، بينما كان الإيطاليون يتمتعتون بصحبة أحفادهم.
وقد يكون هذا سبب الكارثة الإيطالية، ولم تتطرق الأبحاث بعد على ما يبدو على تأثير أمور مثل معدل اللياقة البدنية وممارسة الرياضة وتناول الكحوليات والمخدرات على التأثر بالمرض، وكذلك الفروق مثلاً بين قدرات التحمل لدى الأجناس والسلاسات.
قد يكون من المبكر الحكم على سر المعجزة الطبية الألمانية في مواجهة كورونا، ولكن هناك حاجة لسرعة التعلم سواء من الصين أو كوريا أو ألمانيا، لمواجهة هذه الجائحة التي تجتاح العالم ولن تترك أحداً يهنأ بنجاحه وحده.
المصدر: عربي بوست