لا يكفي تكهن أو تحليل سياسي لفهم مآلات أو مخرجات مؤتمر برلين الذي أعتبره مجرد تظاهرة أوربية لإعادة الهيمنة على الملف الليبي بعد أن انقلب عليهم الأتراك والروس.
يعقد مؤتمر برلين في خضم تدافع دولي غير مسبوق على الملف الليبي وتباينات وتحالفات ومسارات متناقضة لا يجمع بينها سوى شخص الأبصار نحو جغرافية ليبيا الغنية بالموارد الطبيعية والمتميزة استراتيجيا بموقع بالغ الأهمية والحساسية معا في الحسابات الدولية.
وثمة من يعتبر أن الاهتمام المفاجئ واللافت بالملف من قبل القارة العجوز هو دق لناقوس الخطر الداهم من القيصر الروسي وحليفه التركي على وزن الإمبراطورية العثمانية، مما يعتبر في الكثير من العواصم الأوربية استفرادا غير مقبول من الروس والترك بشؤون ليبيا التي يعتبرها الأوروبيون فضاء استراتيجيا وساحة نفوذ خاصة بهم، لا سيما فرنسا وإيطاليا المتنافستين بصمت على إدارة صراع المصالح في ليبيا منذ نحو عشر سنوات.
لكن أوربا التي ترى نفسها معينة بشكل استثنائي ولا بد أن يمر عليها وعبرها أي ساعٍ أو مساعٍ للتسوية في ليببا ـ استيقظت فجأة على وقع دخول طرفين قويين في خط المعادلة الليبية بل ولديهما تأثير كبير على طرفي النزاع انتهى في وقت وجيز بإعلان الاستجابة لوقف إطلاق النار دون شروط مسبقة؛ الأمر الذي عجزت عنه أوربا ومجلس الأمن والامم المتحدة.
هذا الأمر أثار انزعاجا غير عادي في عواصم الاتحاد الأوروبي وأقض مضاجع دبلوماسية روما وباريس فشدّا الرحال نحو عديد العواصم ذات العلاقة بالملف الليبي، ليس فرحا بالطبع بوقف العنف وحقن دماء الليبين بقدر ما هو انزعاج كبير من اللاعبين الجدد في تفاصيل المشهد السياسي الليبي المفتوح على مصراعيه للاستقطاب الحاد إقليميا ودوليا.
فتركيا التي قلبت الموازين فجأة بتوقيعها اتفاقيات رسمية في وضح النهار مع الحكومة الليبية المعترف بها دوليا، ووقوفها السياسي والأمني معها في وجه هجوم الجنرال الساعي للسلطة بسلاح فرنسا ومصر ومال الإمارات ـ ليست مقبولة فرنسيا وحتى أوروبيا إلى حد بعيد في الساحة الليبية، لا سيما مع ثقلها العسكري القوي أطلسيا وإقليميا؛ لأنها تغير المعادلة الليبية بكل أبعادها السياسية والتنموية والأمنية.
إلى جانب نجاحها في سحب البساط الروسي الرسمي من تحت أقدام شركة فاغنر التي يتمترس حفتر خلفها في إدارة المعارك جنوب طرابلس، ولا شك أن ذلك لم يكن سهلا ولا يتوقعه أحد إلا أن الدب الروسي الصديق اللدود للأتراك لن يضحي بمصالحه وعلاقاته القوية بالترك بسهولة.
وأعتقد أن ما يربط أنقرة بموسكو في الملف الليبي ليس مجرد تفاهمات لوقف إطلاق نار هش وغير قابل للاستمرار بقدر كونه محاولة إنشاء قطب ثنائي، وربما سيضم آخرين مستقبلا؛ لكسر القطب الواحد الذي تجعل منه أوربا مظلة في شرعنة وضمان مصالحها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وفي تقديري أن هذا الصراع احتدم بشكل كبير في الأيام الأخيرة وقد كان وراء هروب حفتر قبل التوقيع على مسودة الإتفاق في موسكو نتيجة ضغط فرنسي قوي إلى جانب ضغط رعاته ووعاته في الإمارات ومصر.
• الأمر الذي أغضب بوتين وأشعره بالإهانة مما قد يحمل مفاجآت غير سارة للجنرال الذي لا يملك من قراره قدر جرة قلم .
في تقديري ووفق المعطيات الميدانية سينتهي مؤتمر برلين وتعود الأطراف الليبية مدفوعة بمزيد من التعقيدات، وقد تبدأ الجولة الثانية من الحرب الظالمة على طرابلس؛ لأن حفتر ومن قبله داعموه لا يؤمون في الأساس بأي تسوية سياسية في ليببا وخيارهم الوحيد هو الاصطفاف.
وربما تكون هذه المرحلة الأكثر حدة وقوة وستكون حاسمة وقد يفقد معها الجنرال كل أوراقه جملة وتفصيلا.
بقلم الكاتب الليبي: موسى تيهوساي