ما إن أُعلِن في موسكو عن جمع الأطراف الليبية لتوقيع وقف إطلاق النار حتى أعلنت ألمانيا عن موعد عقد مؤتمر برلين المعني بالأزمة الليبية في التاسع من يناير الحالي، وهو ما جعل كثيراً من المتابعين يعتبرون مسألة التوقيع على وقف إطلاق النار محسومة، وأن هذا الاتفاق سيكون تمهيداً لنجاح هذا مؤتمر، وإن استعجلت ألمانيا في عقده.
والمفاجأة أن حفتر ووفده الذي لم يخلُ من حضور إماراتيٍّ لم يوقّع الاتفاق بعد أن ماطل وطالب بمهلةٍ حتى الصباح، هذا الرفض برّره معسكره بالإصرار على عدم قبول أي دور تركي في مراقبة وقف إطلاق النار، وأن التوقيع يعني الإقرار بقانونية مذكرتيْ التفاهم الموقعتين بين أنقرة وطرابلس، وبرغم أن هذا الرفض يجعل فرص نجاح مؤتمر برلين ضئيلة ولا يمكن أن يعوّل عليها، فإنّه لم يلقَ أي استنكارٍ أو استهجان من الدول التي رحّبت به ما عدا تركيا، بل أصرّت ألمانيا على عقد المؤتمر فيما موعده، وهذا ما يستوجبُ سؤالاً مشروعاً هو: إلامَ يهدفُ الأوروبيون من مؤتمر برلين بهذه العجلة؟
الهدفُ المُعلَن لعقد مؤتمر برلين هو توحيد الجهود الدولية والوصول إلى صيغة توافق فيما بين الدول المعنية بليبيا من أجل حلّ الأزمة، غير أنّ رفض حفتر لتوقيع وقف إطلاق النار الذي بلا شك إن لم يكن بإيعاز من الدول الداعمة له فهو بمساندة منها – هذا الأمر يدلّ على أن حالة التوافق التي وصلها المجتمع الدولي ضعيفة وهشة ولا تسمح للتعاون فيما بينها، وهو ما جعل المستشارة الألمانية تصرّح أمام كتلتها النيابية في البرلمان الألماني: بأنها لا ترفع سقف التوقعات المرجوة من مؤتمر برلين وتأمل في تحقيق تقدّمات ضئيلة، وهذا ما يدفعنا للبحث عن هدف جديٍّ للأوروبيين وراء الاستعجال على مؤتمر برلين.
يمكن القول: إن الأرجح وراء عقد مؤتمر برلين في هذا التوقيت هو إعادة إدارة ملف الأزمة الليبية دولياً للأوروبين، بعد أن أخذت تركيا وروسيا منهم زمام المبادرة، وربما يرى الأوروبيون في رفض حفتر التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار خدمةً لهم فوّتت على الأتراك والروس الاستئثار بإدارة عملية وقف إطلاق النار والإشراف عليها، ولعلّ ما ورد في المسوّدة المسرّبة حول مؤتمر برلين ما يؤكد أن الأوروبيين يريدون تجاوز الدور التركي والروسي، حيث لم تُشِر المسوّدة إلى الجهود التركية الروسية لوقف إطلاق النار، بل جعلت من البيان الصادر عن لقاء وزراء خارجية الدول المعنية بليبيا على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي دعت إليه فرنسا وإيطاليا منطلقاً وأساساً لمؤتمر برلين لاغية لكل الجهود التي تلته، ومصرّة على إدراج لقاء أبوظبي ضمن مرجعيات العملية السياسية استرضاءً للإمارات.
كما أن المسوّدة تحمل في طياتها مخاوف تدلّ بشكلٍ واضحٍ على أن تعامل الأوروبيين مع الملف الليبي لم يتغير، وهم يحاولون إعادة التجربة بنفس الخطوات والأدوات ويريدون نتائج مختلفة، مما يجعل تحركاتهم نوعاً من العبث المكشوف الذي لا يهدفُ إلا للمحافظة على مصالحهم ونفوذهم دون أي اعتبارٍ جاد أو صادق لاستقرار ليبيا وأمنها.
**نقاط سوداء في المسوّدة:
ومن يطالع المسوّدة المسرّبة يجد نقاط خطيرة في عمومياتها تزيد من حالة الاستقطاب وتنازع الشرعية، ويظهر هذا جليّاً في الحديث عن تفكيك المليشيات دون تحديد مسمياتها، ثم التأكيد على أن يتولّى الجيش والشرطة والمؤسسات الأمنية عملية تأمين الحدود المقرّات الحكومية والمؤسسات الحيوية دون ذكر لمعايير مؤسستي الجيش والشرطة.
كما أن الحديث عن إنشاء مجلس رئاسي جديد، وحكومة وحدة وطنية واشتراط نيلها ثقة مجلس النواب وإغفال دور المجلس الأعلى للدولة في ذلك هو كسر لحالة التوازن التي يقوم بها مجلس الدولة، مع أن عدم التطرّق إلى إصلاح مجلس النواب وما يعانيه من تشظٍّ وانقسام بسبب رئاسته العابثة، هو انحياز واضح لطرف على حساب آخر، كما أن التأكيد على أن الاتفاق السياسي يمثل الإطار العام للعملية السياسية ثم إغفال إصلاح مجلس النواب الذي كان أداة العرقلة طيلة الفترة الماضية هو إصرار على اجترار الفشل خاصة في ظل وجود كتلة كبيرة من النواب تطالب بهذا الإصلاح.
أيضاً فإن الحديث عن إجراء انتخابات رئاسية ونيابية كمرحلة أخيرة للعملية الانتقالية وإغفال الحديث عن الإطار الدستوري ومصير مشروع الدستور هو قفز على مشكلة رئيسية تسببت في تكدّس مراكز السلطة وتنازع الشرعية، إضافة إلى أن إصلاح المؤسسات السيادية وتوحيدها وتحقيق التقسيم العادل للثروات ودعم اللامركزية والحكم المحلّي مرهون بوجود الدستور، فلِصالح مَن أُغفِل الحديث عن الدستور؟
أما فيما يتعلّق بتوحيد المؤسسة العسكرية والأمنية فاعتبار محادثات القاهرة مرجعاً في ذلك خارج الإمكان السياسي بعد الانحياز الصريح والواضح للقاهرة ودعمها المكشوف لحفتر وعصاباته واعتبار القوات المدافعة عن طرابلس مليشيات، وأعتقد أن حكومة الوفاق قد تأخرت في إعلان أنها غير معنية بنتائج هذه المحادثات وأنها تعتبر القاهرة طرفاً غير مقبول في مثل هذه الوساطة، ولكن مازال يمكنها اتخاذ هذا الموقف في ظل الاستفزاز المصري المستمر.
لعلّ حكومة الوفاق وهي على أعتاب برلين ينبغي عليها أن تنتهج نهجاً أشدّ صلابة وتضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته وتتمسك بحلفائها وقبل ذلك كله تستمر في دعم رجالها على الجبهات باعتبارهم خط الدفاع الأول والأخير عن الدولة المدنية وصمام الأمان لحمايتها من جحيم الاستبداد.
بقلم الكاتب الليبي ” علي أبوزيد “