تشهد مفوضية الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية ووزارات الخارجية لأهم عواصم القارة العجوز نشاطاً ملفتاً هو أقرب لحالة الاستنفار فيما يتعلّق بالملفّ الليبي، هذا النشاط الذي يتضمّن حديثاً عن ضرورة تفعيل الحل السياسي وإنهاء التصعيد العسكري والأعمال القتالية، خاصّةً أن استمرار القتال كرّس لمزيد من التدخّل العسكري لكثير من الدول.
هذا النشاط الواسع للدبلوماسية الأوروبية قد يكون غير مستغرب لو كان منذ بداية العدوان على طرابلس، أو بعد قصف حي الانتصار في بلدية “أبوسليم” أو قصف مركز إيواء المهاجرين في تاجوراء أو بعد قصف عائلة قشيرة في الفرناج، وهو بلا شك ليس نتيجةً لمجزرة طلبة الكلية العسكرية في الهضبة، لأن الضمير الإنساني الذي تتبجّح به أوروبا، والذي لم تحرّكه سلسلة الجرائم السابقة فلا يمكن أن تحرّكه مجزرة طلبة الكلية العسكرية رغم بشاعته وشناعتها، كما أنه ليس بسبب تزايد التدخل الأجنبي الذي تتورط دول أوروبية فيه منذ 2014، فما السبب وراء هذا النشاط؟ وما الجديد الذي يحمله الأوروبيون لليبيا؟
يمكن القول: إن الأوروبيين الآن في مرحلة الإفاقة من الصدمة التركية، التي فاجأتهم باقتحامها الملف الليبي وتجاوزها الدور الأوروبي بخطوات سريعة وواثقة نحو دور رئيسي لا يمكن تخطّيه بسهولة، فأنقرة بتوقيع مذكرتيْ التفاهم مع طرابلس عزّزت من نفوذها في البحر الأبيض المتوسط، وأصبح دعمها لحكومة الوفاق علنياً وشرعياً، إضافة إلى أنها أكثر الدول مقدرةً على التعاطي مع الوجود الروسي في ليبيا من خلال العلاقة المتّزنة مع موسكو ومقدرتها على إدارة ملفّات شائكة ومعقّدة معها في المنطقة رغم تعارض المصالح غالباً، وهو ما جعل واشنطن مطمئنة للدور التركي في ليبيا.
الأوروبيون الآن يتجرّعون مرارة خلافاتهم حول ليبيا، وهم يرون نفوذهم يتقلّص لحساب تركيا التي وجّهت إليهم صفعتين موجعتين، الأولى بتحديد مناطق الصلاحية البحرية لتنهي بذلك ما يعرف بمنتدى غاز شرق المتوسط ولتقضي على استثمارات هائلة كانت تسعى لها توتال الفرنسية وإيني الإيطالية، والصفعة الثانية بحضور قوي وارسخ في ليبيا من خلال علاقة استراتيجية مع حكومة الوفاق مبنية على الثقة والمصلحة المشتركة، كما أنهم يشعرون بخيبة كبيرة تلقوها من “حفتر” الذي استعان بمرتزقة الفاغنر وأتاح المجال الليبي للنفوذ الروسي بما يهدّد المصالح الأوروبية في عمق القارة الأفريقية.
وبعد أن تأكد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يحاول الأوروبيون إعادة ترميم سياستهم الخارجية، ويرون في الملف الليبي التحدي الأبرز أمامهم، لذلك يسعون إلى إيجاد صيغة تفاهم فيما بينهم حول الملف الليبي قبل عقد مؤتمر برلين، ويبدو أنهم وجدوا في تنامي الدور التركي والوجود الروسي ما يوحّدهم، لذلك يمكن القول أن المبادرة الأوروبية تهدف في حقيقتها إلى تحجيم الدور التركي من خلال السعي إلى فرض حظر جوّي، وفتح قناة تواصل مباشرة بين موسكو وواشنطن بشأن ليبيا مما يقلّص من اعتماد واشنطن على أنقرة في ليبيا، وهذه الجزئية الأخيرة هي ما تسعى إليها تحديداً الحكومة الإيطالية كما يُفهم من تصريحات وزير خارجيتها الأخيرة لوكالة آكي.
أيضاً فإن الزيارات السريعة لمصر وتونس والجزائر التي يقوم بها وزيرا خارجية فرنسا وإيطاليا إضافة إلى اتصالات ألمانيا المكثفة بدول الجوار الليبي يمكن وضعها في سياق محاولة إفشال التحالف الذي تسعى أنقرة لبنائه دعماً لحكومة الوفاق.
المُلفِت أن واشنطن لا تبدو مهتمّاً بالتحرّكات الأوروبية الأخيرة، ولعلّ السبب في ذلك هو سلوك إدارة ترمب التي تفضّل التعامل مع الدول الأوروبية بشكل منفرد ولا تعوّل على تعاونها مع الاتحاد الأوروبي كتكتّل، وهو ما يرجّح استمرار تعويل واشنطن على أنقرة خاصّة فيما يخص الوجود الروسي، وضمان المحافظة على تدفّق النفط الليبي الذي سيكون عاملاً مهماً في استقرار سوق الطاقة بسبب الأزمة المتصاعدة مع إيران.
وبالرجوع للتحرّكات الأوروبية فإنها في سياق المحافظة على النفوذ والمصالح الأوروبية وليست لحل الأزمة، وهذا ما سيجعل الأوروبيين يحاولون إدارة عملية السلام التي يحاولون إطلاقها في سياق ضمان مصالحهم، وهو ما يستوجب على حكومة الوفاق السعي إلى عدم استئثار الأوروبيين بهذا الملف الذي لم يقدّموا فيه شيئاً منذ 2014، ولعلّ السبيل إلى كسر الاحتكار الأوروبي لإدارة عملية المفاوضاتمن خلال التمسك بالشراكة الليبية التركية وزيادة توطيد العلاقة والتعاون مع دول المغرب العربي خاصة الجزائر وتونس.
للكاتب: علي أبوزيد