كان ولا يزال همي الأكبر تقصي مواقف وسلوك النخبة، فهم في نظري ثرمومتر الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، ومؤشر التقدم أو النكوص، وبوصلة الوجهة نحو الاستقرار والنهوض، والأداة الرئيسية لإحداث التغيير إلى الأفضل أو العكس.
وأجدني في كل أزمة أو واقعة أو مصاب أنقِّب عن موقف المحسوبين على النخبة، وأنظر في كيفية تعاطيهم معها، وهل كان خطابهم وتوجيههم موضوعيا وبناء، أم مدفوعا بالنزوع الجهوي والقبلي ومكبلا بالعصبية الحزبية أو المصلحة الشخصية، أو منساقا خلف الساسة وأصحاب النفوذ دون اعتبار للمنطق والحكمة والمسؤولية الأخلاقية.
النخبة وساعة صفر حفتر ما أثارني كلام خليفة حفتر عن ساعة صفره، ولم أهتم بندائه جنوده لحسم المعركة، فلم يكن النداء الأول ولن يكون الأخير ما دامت الحرب مشتعلة.
ما أثار حفيظتي هو تعامل من نحسبهم على النخبة من أنصار “الجيش” مع هذا العبث المفضوح. قلبت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وتفحصت ما وصلني من رسائل فوجدتني مشدودا إلى مناشير “النخبويين” وإدراجات المحسوبين على أهل الرأي ومن نظن أنهم من الحكماء والراشدين، فأصابني من المرارة ما لا طاقة لي به.
كابتن طيار من الجيل الأول أو الثاني من الطيارين الليبيين، معروف في شخصه ومعروف نسبه، يدوِّن على صفحته في “الفيسبوك” أن المجلس الرئاسي بقضه وقضيضه قد فر من العاصمة، ثم يلحق إدراجه بتعليق يضع فيه بيانات الرحلة الجوية إلى إسطنبول، هكذا بكل ثقة ويقين، دون أن يتجشم عناء التدقيق حتى لا يقع فريسة التضليل الذي لا يليق بالنخبوي، والتفاعل المبتهج الذي لا حصر له من قبل المتابعين لصفحته.
تتحكم المجاملة والاصطفاف السياسي والجهوي والأيديولوجي في توزيعة المشهد واتجاه التيار، فكل ما ينال من الآخر الخصم أو العدو هو محط إكبار بغض النظر عن صحته دكتور في فرع من فروع العلوم الإنسانية، وعميد جامعة سابق يقسم بالأيمان المغلظة أن الفارين من طرابلس من حكومة الوفاق هم تحت حماية كتائب بعينها في مصراتة، وأن “الجيش” شرع في استلام المقار الرئيسة في العاصمة، ليتكرر التفاعل مع المنشور بنفس الفرح والاستبشار.
مناضل سياسي شاب شعر رأسه في النضال ضد الديكتاتورية وحكم العسكر زهاء 40 عاما ينقل أخبارا عن تدمير قوات المدافعين عن العاصمة وتوغل “الجيش” في أحيائها، والعشرات من متابعيه، ومن بينهم من ينافس صاحب المنشور في علو كعبه في النضال السياسي، يبدون الإعجاب ويباركون الانتصارات.
كابوس محزن وتمر الساعات وينقضي اليوم الأول والثاني لينكشف غبار التضليل، والكابتن والدكتور والمناضل، وغيرهم ممن تورطوا في حملة التزييف، ملتزمون الصمت ولم يتحملوا مسؤولية الكلمة وأمانة النقل ليوضحوا لمتابعيهم على صفحاتهم ما الذي جرى وكيف انجروا خلف الدعاية المغرضة والكذب الصراح!! وتعج وسائط التواصل الاجتماعي بمناشير وتعليقات وإعجابات من نصنفهم من أولي الألباب الذين لهم تقديرهم في المجتمع لمكانتهم الاجتماعية أو مستواهم العلمي أو مواقعهم القيادية في مختلف المؤسسات بنفس الوتيرة، دون أن يتجشموا عناء التحقق من صدق ما يتم تداوله أو كذبه، بل آثروا أن يكونوا ضمن جوقة التضليل والتزييف.
كابوس محزن يجثم على الصدور منذ ارتفاع سقف الحريات مع اندلاع ثورة فبراير، يتصدر التوجيه فيه قطاع واسع من النخبة بخطاب غير مسؤول ولا موضوعي ليجر خلفه قواطر من الغافلين لتكون النتيجة تكريس التخلف وتعظيم القطيعة ودعم مسعري الحرب، وانقسام المجتمع بشكل حاد ليصل الخلاف إلى العظم.
وتتحكم المجاملة والاصطفاف السياسي والجهوي والأيديولوجي في توزيعة المشهد واتجاه التيار، فكل ما ينال من الآخر الخصم أو العدو هو محط إكبار بغض النظر عن صحته، أما ما هو ضد جبهته وعصبته فهو تشويه وتلفيق حتى لو كان حقيقة لا جدال فيها، لتتوه الحقيقة في ساحات التراشق وتضيع الأمانة في خضم الصراع، ويعلو شأن المضلل الكاذب ويحقَّر الصادق في كلامه والأمين في نقله.
والخلاصة أن الأمثلة على ما ذكرت أكثر من أن تحصى، والمتورطون هم من طليعة المجتمع بمختلف تصنيفاتهم، وتبحث عن اعتذار عما صدر عنهم من أخبار كاذبة ومعلومات مزيفة فلا تجد، ليتأكد لك أن الحالة تخطت الخطأ البشري لتنزلق إلى فساد في الضمائر وتشوه في الأخلاق بالانجرار وراء العداوة وما تفرزه من أحقاد تحلق الدين ولا تبقي من آدمية الإنسان شيئا.
وماذا تبقى للمجتمع بل وماذا تنتظر له إذا كان هذا حال طليعته؟!
المصدر: موقع عربي 21