هناك جيلٌ من المثقفين تربّى في حضن الاستبداد آنساً بقربه مطمئناً إلى رفده، شاكراً له على المساحة الضيقة من الحرية التي وهبها له ليعبّر فيها عن أفكاره بما لا يتعارض أو يُعرّض بهذا المستبدّ، بل غاية أمره أن يدّعي التقدميّة بمهاجمة بعض عادات المجتمع وتقاليده، أو يواطئ النظام بمهاجمة الدين من بوابة الحداثة والعصرنة دون فهم لمنظومة المعارف الإسلامية أو إدراكٍ لخصائصها.
هذا الجيل عاش ردحاً من الزمن مستمتعاً بوهم المعارضة الناعمة التي أرادها النظام المستبدّ ديكوراً يزين بها مشهد الحريّة المزيّفة التي يمتنّ بها على الشعب، وقد اعتاد هذا الجيل من المثقفين أو (المتثاقفين) على هذا الدور، ولم يستطيعوا تجاوزه أبداً حتى بعد سقوط عروش الاستبداد في موجة الربيع العربي، فلم يستطيعوا توجيه نقدهم الجادّ والحادّ لارتدادات هذا الربيع التي تمثلت في عودة أو محاولات عودة بعض الأنظمة الاستبدادية في بزّتها العسكرية، بل على العكس تماماً، تجد هؤلاء المتثاقفين يبرّرون للاستبداد ويجعلونه ضرورةً تستدعيها المصلحة الوطنية واللحظة التاريخية الحاسمة، ويأتي هذا التبرير في العبارة اللينة والقول المعسول الذي يفوح تزلّفاً وتملّقاً مفضوحاً كريهاً، مما جعل النهب عندنا مظهراً من مظاهر الأزمة بما تشكّله من وعيٍ مشوّه داخل المجتمع.
وتجد هذه الفئة المتثاقفة تُحِدّ الألسنةَ وتُغلظُ القولُ وتَفجُر في الخصومة وتستدعي الباطل لتهاجم كل مشروع يتخذ من المرجعية الإسلامية منطلقه وأساسه، لترميه بالتطرّف والإرهاب والتخلّف والرجعية وغير ذلك مما روّجته الحركة الاستشراقية أو الدعاية الغربية، ويمثّل هذا العداء نقطة التلاقي بين النظام الاستبدادي ودواجنه المثقفة، فالأنظمة المستبدّة تدرك مدى قدرة الخطاب الإسلامي على تحريك الجموع وخطر ذلك عليها، والثلة المثقفة الداجنة تدرك عجزها عن إيجاد خطاب مؤثر يحرك الجموع ويستقطبها.
وإذا أردت نقاش هذه الفئة المتثاقفة والبحث معها عن منهجها الذي تحتكم إليه في صوغ أفكارها ومرجعيتها التي تنطلق منها في بناء منظومتها الفكرية أو القيمية فلن تجد عندها إلا الاضطراب والتخبّط بينَ مُمجّد لقوميةٍ عروبيةٍ دَرَستْ وبقيتْ أطلالها تشهدُ بنكبةٍ ونكسة، وبين مدّعٍ للوطنية ينسبها لنفسه ومن شاء وينفيها عن خصمه ومناوئه.
وغاية حالِ هذه الفئة أنها لا تجدُ طمأنينتها وسكينتها إلا في ظلّ الاستبداد وحظيرته، لتمارس دورها الذي اعتادته كمنظر تجميليّ يخفي به الاستبدادُ قبحَه بشيءٍ من مساحيق الثقافة الزائفة وألوان المعارضة الباهتة، فهي مناصرةٌ للمستبدّ آنسةٌ به لا تريد انفكاكاً عنه، مستوحشةٌ من الحراك الإسلاميّ الذي له مرجعيته الواضحة، وخطابه المؤثر، والقدرة على المراجعة والتقويم، مع الحيوية والمرونة التي تمكنه من التعاطي مع مستجدات العصر دون تفريط في ثوابته، وهذا الأمر هو ما يحتّم على من تدجّن في حظائر الاستبداد أن يصطفّ مع المستبدّ ويزيّن الاستبدادَ في وعي المجتمع ويبرّر له ويزخرفه بشعارات الوطنية الزائفة والضرورات الموهومة.