على الرغم من إعلان المتحدث باسم الكرامة المتكرر بأن العاصمة هي هدفهم النهائي، إلا أن العدوان عليها اعتمد على تحرك مباغت من حيث التوقيت السياسي، إذ تزامن مع استعداد الجميع للملتقى الوطني الجامع الذي نسقت له البعثة، بعد أن وجهت الدعوات للمشاركين وأرسل حفتر أسماء من سيمثله في اللقاء، وتزامن كذلك مع زيارة الأمين العام للأمم المتحدة ووجوده في طرابلس.
لا شك أن عدة عوامل شجعت على هذا التمرد، أهمها انقسام المجتمع الدولي حول ليبيا، وضعف وهشاشة العملية السياسية؛ بسبب ظروف عديدة، أهمها عرقلة تنفيذ الاتفاق السياسي والعوائق التي فرضها معرقلو الوفاق المحليون والإقليميون منذ بداية دخول المجلس إلى العاصمة، وقد أبدى رئيس المجلس الرئاسي مرونة عالية لاحتواء الجميع؛ جعلته عرضة للانتقادات، وزادت من إغراء المتمرد بالانقلاب على السلطة.
وقد كان الغرض من الهجوم على العاصمة في ذاك التوقيت السياسي تحقيق نصر خاطف يفرض به حفتر أمرا واقعا، ويعول في حال نجاحه على الترحيب المحتمل لبعض الأطراف الدولية رغبةً في سيطرة أحد الأطراف وانتهاء الأزمة، ولكن العدوان لم ينجح واصطدم بمقاومة شرسة انكسرت على إثرها قواته على حدود طرابلس، ولم يتمكن من إحراز أي تقدم يذكر لصالحه على الرغم من كل الدعم الذي يتحصل عليه.
ما حدث جعل حفتر في مأزق كبير، بفشله في تحقيق الهدف الأساسي وهو فرض الواقع بالمباغتة، وأصبح في موقف محرجاً أمام داعميه؛ لأن رجوعه مهزوما سيجعله يخسر كل شيء، وتتحقق بذلك المعادلة الصفرية وهي الهزيمة الكاملة، فليس أمامه إلا الاستمرار في عدوانه وتوريط الجميع في مزيد الكوارث المترتبة على هذه الحرب، خاصة بعد أن أعلن رئيس المجلس الرئاسي صراحة النفير العام ضد هذا العدوان، ووصف حفتر بمجرم الحرب، وطالب المجتمع الدولي بمحاسبته والالتزام بدعم الحكومة الشرعية.
وبفشل العدوان في تحقيق الحسم السريع وفرض الواقع المخطط له فإن كل ما يجري حتى الآن خلال هذه الأشهر هو فقط محاولات للتخفيف من قسوة الهزيمة، وإن ترتب على ذلك إزهاق المزيد من الأرواح وترويع الآمنين، وتعميق التمزق في النسيج الاجتماعي، فحفتر يهدف إلى وضع الجميع في مأزق خطير، ولا يمر يوم إلا وهو أضعف فيه من الذي قبله، ولكن هناك حاجة ماسة الآن لاتخاد بعض التدابير من طرف حكومة الوفاق والقادة العسكريين بعد النجاح في صد العدوان، تتعلق بالخروج من حالة الفزعة والاستنفار التي كُسر بها العدوان إلى حالة ترتيب الأوضاع؛ لتفادي حالة الإنهاك، وهذا ما علمت البدء في تنفيذه الآن، وما يقوم به حفتر يُذكِّر بحال القذافي في آخر أيامه عندما أضاع كل الفرص حتى أودى بنفسه ومن معه إلى نهايته.
يقول البعض: “ولكن الحصار للعاصمة لا زال مستمرا ولم يتوقف العدوان!”، وأقول: نعم وسيستمر في المحاولة والفجور في الخصومة، فليس أمامه إلا الاستمرار إلى أن يصل إلى نهايته؛ لأن تراجعه أو إعلان فشله وعودة قواته يعني بالنسبة له خسارة كل شيء، وفي مقدمة ذلك ما قام بتسويقه طوال السنوات الماضية من تأسيسه لجيش قوي يستطيع به السيطرة على طرابلس في أيام، وهذا ما قصدناه بالمعادلة الصفرية التي راهن عليها في إطلاق عدوانه.
هو يحاول أن يثبت بذلك وجوده من خلال تنفيذ ضربات جوية في أماكن متفرقة؛ ليقول لشركائه وداعميه أنه لا زال موجودا، ويحاول أن يتحرك على الأرض بنفس الطريقة من خلال التقدم والتراجع واستعمال كثافة النيران، وارتكاب كل الانتهاكات لترويع المدنيين، ولكن كل هذا لتأجيل الفشل طمعا في أن تلوح فرصة تجود بها الظروف، وهو في كل هذا غير مبالٍ بمزيد الخسائر في الأرواح والممتلكات.
وهذا ما يفسر تعويض العجز والخسائر على الأرض بالقصف العشوائي للطيران ولو شكليا، فالطيران قد يدمر ولكنه لا يحسم حربا، والتوقف يعني خسارة الحرب، وبالتالي فقدان سقفه التفاوضي وميزان قوته وحضوره حتى في الشرق الليبي، وعند مؤيديه المحليين والدوليين إلى ما قبل 4/4 بمراحل.
أما من يحاول مقارنة ما يجري في محيط العاصمة بما جرى في بنغازي فإن المعطيات على الواقع لا تسعفه من عدة وجوه، فعلى الرغم من موقفي الواضح من الحرب في بنغازي ودرنة – كونها حرباً مختلة الموازين من كل جانب ومختلطة الأطراف من جانب آخر، فقد خاضها أحد الأطراف مجرداً حينها من الغطاء الشرعي المعترف به دوليا، وكان معزولا بدون حاضنته الشعبية التي هجرت إلى مدن الغرب، وظلمت وجرّت الحرب في بنغازي وسط أحداث واغتيالات سياسية مختلطة طالت مختلف الاتجاهات تحمل بصمات عدة، بعضها قامت بها أيادي الإرهاب السوداء، وأخرى بتوقيع أجهزة استخبارات إقليمية، جزء منها راح ضحيتها خصوم حفتر من الشخصيات العسكرية المعروفة بمواقفها الرافضة لعودة الحكم العسكري من جديد.
ومع دخول التنظيمات الإرهابية كأنصار الشريعة وداعش وغيرها من المجموعات المختلطة على خط الصراع، تحولت الساحة إلى مناخ مناسب لنشاط الإرهاب، الذي كانت عناصره تتحرك بحرية كاملة من درنة إلى سرت عبر الطريق الرئيسي وتحت سمع وعين الطيران الداعم لحفتر دون أن تستهدفه، في الوقت الذي كانت تستهدف فيه الأحياء السكنية في درنة.
كل ذلك يخلق فروقا جوهرية وكبيرة بين الحرب في درنة وبنغازي وبين الحرب التي الدائرة غمارها في طرابلس وسط حاضنة شعبية واسعة، وتحت حكومة شرعية مؤيدة دوليا وإقليميا مهما كانت درجة التأييد، ومهما كان التواطؤ تجاه حركة التمرد التي قام بها حفتر على العملية السياسية من قوى إقليملية قطعت الطريق على عقد الملتقى الجامع بغية تغيير الخارطة السياسية، الأمر الذي باء بالفشل، بل تحول إلى مأزق ليس على المستوى المحلي فقط، بل والدولي كذلك.
إن المعركة في محيط العاصمة الآن هي معركة دفاع عن طموحات الشعب الليبي بأكمله في التخلص من حكم العسكر والاستبداد، تلك الطموحات التي عبر عنها بثورة 17 فبراير ضد الاستبداد، وهذا ما يفسر لنا تحالف أغلب رموز أنصار النظام السابق مع هذا التمرد، وهذا يدعونا جميعا إلى ضرورة الانتباه وتوحيد الجهود في مواجهة هذا المشروع الاستبدادي، والذي نرجوا أن يكون أخر الألام والعمل تحت حكومة الوفاق ودعمها ونصحها بالتي هي أحسن؛ حتى يتوفر كل الدعم في صد ودحر هذا العدوان، كما أن تناسي الخلافات وتوحيد الجهود، والتماس الأعذار وتقدير عواقب التفرق، وتفويت الفرصة على أعداء الديموقراطية، والابتعاد عن الشائعات والأكاذيب والإعلام المضلل، وتأجيل الخلافات حول المسائل الجانبية عامل حاسمٌ للانتصار في هذه المعركة، وسيكتب التاريخ الخزي والعار لكل من يساند الاستبداد، أو يقف محايدا إزاء هذا العدوان ويفرط في تضحيات الليبيين من أجل تنصيب فرد أو عائلة أو قبيلة حكاماً على ليبيا.
وختاماً فإنه من حق شعب عاش تحت نير الظلم والاستبداد أربعة عقود ونيف، وصبر وقدم ولازال يقدم في المواقف آلاف الشهداء والجرحى والتضحيات الجسام، من حقه رفض كل أشكال الاستبداد والفوضى مهما كان مصدرها، وهذا ما نتمسك به من واجب ومسؤولية أمام الله ثم الوطن والناس والتاريخ، ولن ندخر في ذلك جهدا يمكن بذله في سبيل استحقاق الحرية والوصول إلى الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة، راجين الله أن تؤتي جهودنا ثمارها، وإننا على ثقة في نصر الله، ولن تضيع -بإذن الله- دماء الشهداء والتضحيات الضخمة التي بذلها الليبيون والليبيات في سبيل نيل حريتهم، وتحررهم من حكم الفرد وذل الاستبداد.