في الوقت الذي ترك فيه السيسي شعبه يغلي من نار المعاناة المتواصلة منذ خمسة سنوات بعد انقلاب دموي لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد، وبعد أزمات عصفت ولا تزال تعصف بالمصريين من كل جانب، وبعد تأكيده أنه سيبني قصورا جديدة وفاخرة رغم أنف الجميع وبأموال الشعب المصري الذي يعيش 66% منه تحت خط الفقر المدقع والبطالة وفق تقارير رسمية من الصندوق الدولي بعد أن أصم آذانهم وهو يكرر: “نحن فقراء أوي نحن أمة العوز”؛ تحول إلى مصلح يحث على العدل، بل وكان همه الأكبر عند ما أطلّ من منصة الأمم المتحدة بالنيويورك هو “الكشف عن الخلل الكبير في توزيع الثروة في ليبيا وما سببه ذلك من معاناة للشعب الليبي وفق السيسي،مطالبا بالعدل في توزيعها!.
لعل الملفت أكثر من كلام السيسي الذي لا يوجد شيء يمكن أن يعطي فيه دروس للآخرين سوى القمع والسحل وإدارة تغييب الخصوم السياسيين وتشويه سمعتهم، قوله بأن مصر تدعم الحوار السياسي لحل الأزمة الليبية بينما يدعم في المقابل زميله في البطش والتنكيل وسلب الإرادة السياسية والكرامة الإنسانية “حفتر” والذي لا يحسن سوى العنف للتعامل مع كافة المتغيرات والمواقف السياسية.
ليس هناك أي تفسير منطقي يمكن أن يدفع السيسي إلى الحديث عن الإصلاح وهو أفسد حاكم في القرن الواحد و العشرين، إلا لفت الانتباه إلى المنطقة التي يسيطر عليها جنرال الهزائم حفتر المحتفظ في سجله العسكري برقم قياسي في الهزائم على مدى قرنين هزيمة “وادي الدوم”، والأخرى في القرن الواحد والعشرين “غريان”.
ولقد حاول حفتر أكثر من مرة بطلب ولاشك من السيسي إنشاء مؤسسة نفطية موازية في الشرق الليبي ليتمكنا من وضع أيديهما على جزء من ثروة ليبيا التي لطالما سال لها لعاب السيسي بعد فتح حسابات بنكية لها في أبوظبي، بيت مال الجنرالات الكلاسيكية التي تقود مشروع لإعادة هيكلة الأنظمة الاستبدادية من جديد بعد ثورات الربيع العربي مهما كلف الأمر من أموال و”رز” الإماراتيين .
إن الملك العضُوضُ ليس أمراً جديد على الشعوب العربية بشكل عام على مدى قرون خلت، إنما الجديد هو تغيير ثقافة الأُسراء -بتعبير الكواكبي- أي تغيير وعي الشعوب وفرض إرادتها على الحاكم بأمره وأدواته وإن كان ذلك بشكل خجول أحيانا إلا أنه يعد أمرا ملفتا وجدير بالاهتمام وقد بلغ ذروته بداية ثوارت الربيع العربي.
إنما المشكلة الأكثر تأثيرا على الشعوب أو البسطاء منهم هي الاستبداد الديني الذي يمثل ظهير الاستبداد السياسي وخادمه المطيع، ولا أعتقد أحدا يمتلك أدنى وعي وبصيرة لم يرَ كيف يطوع رجال الدين الأحكام الشرعية على مقاييس الحاكم المستبد، بل ويرغّبه في معاداة الشورى وتشجيعه على الانفراد بكل شيء دون الرجوع أو الخوف من لأحد.
وهذه من كبرى المشاكل التي تقف عقبة منيعة في وجه تطلعات الشعوب العربية بعد ما عانته خلال عقود طويلة من الظلم والتنكيل وسلب الإرادة.
في تقديري حتى وإن تخلصنا من السيسي وحفتر وغيرهم من المستبدين والجنرلات، لن يتغير شيء طالما لم يكن هناك مشروع قوي وحقيقي يقود الأمة على مستوى كل قٌطر ويتحمل فيه الجميع المسؤولية وتُصد فيه الأبواب بإحكام شديد أمام عشاق العبودية وصناع الطغاة الذين ما إن يسقط طاغية عربي حتى يسعوا بكل إصرار لصناعة آخر أسوأ من سلفه كحال سيسي مصر وحفتر ليبيا.
إن غياب مشروع وطني واضح للدولة الديمقراطية بعد الإطاحة بأنظمة الاستبداد هو عامل أساسي من عوامل عديدة ساهمت بشكل كبير في فتح الباب أمام عرابي الثورات المضادة.
ومن صور ذلك ارتكاب أخطاء سياسية إستراتيجية في مصر وليبيا من قبل الحكومات التي انتخبت بعد الثورات حيث تساهلت بشكل واسع مع أجهزة الدولة العميقة السابقة والتي عملت بدورها وبصورة غاية في الذكاء مستخدمة الأفق السياسي الجديد وتحت مبررات حرية الرأي والاختلاف والديمقراطية حتى وصلت إلى أعلى هرم السلطة واقتلعته على حين غرة منه في مصر وتعذر ذلك في ليبيا لأسباب تتعلق بهشاشة المؤسسات الحكومية من أساسا.
هل ستستعيد الشعوب سلطتها المختطفة من السيسي وحفتر وبشار؟
الجواب نعم وبكل يقين، لكن هل ستحافظ عليها من نمرود آخر وفرعون جديد قادم؟ أم أنها ستفرض مشروع نهضوي يضمن مستقل الأمة وتقدمها المعرفي والسياسي. الجواب عند الشعوب نفسها هي الوحيدة التي تستطيع فرض ذلك، لأن الحقوق تؤخذ غلابا وليس منحة ومنة.