اعتذار وزير التعليم لطالبة غير ليبية لعدم إدراجها في قوائم الأوائل على المستوى الوطني ورفضه لهذا الإجراء الجائر، معللاً ذلك بأن ليبيا الجديدة لن يكون فيها هذا التمييز الظالم، كل هذا كان سيقع من العقلاء موقع الإكبار والتقدير لو صدر من غيره، ولكن هذا الوزير نفسه هو الذي يصرّ على تجاهل وتهميش طلبة التعليم الديني فلا يذكر نتائجهم ولا يكرم أوائلهم ولا يتيح لهم الاطلاع عليها من خلال موقع الوزارة، بل ويحارب التعليم الديني بالتضييق والتعطيل والازدراء لطلابه وأساتذته، وكأنّ “ليبيا الجديدة” التي ذكرها في اعتذاره للطالبة المذكورة، لن يكون فيها تعليمٌ ديني.
إن هذا الاعتذار ليس إلا نوعاً من الاستعراض الذي لا يتقن غيره هذا الوزير، والذي عودنا عليه بقراراته الارتجالية، وخطواته الاستفزازية، التي تعكس حالة السطحية والضحالة التي يغطيها غشاء رقيق توفره شهادة الدكتوراة التي يحملها، والتي لا تستر أي شيء من فقره التربوي، وخوائه الثقافي، فالرجل يريد أن يظهر في مظهر صاخبٍ من الجدية والصرامة، غير أن تقمّص هذا الدور سرعان ما ينفضح لغياب الرؤية أو المشروع.
قد يحاول بعض المتحمسين للوزير أن يجرّ المهتمين بمسألة التعليم الديني إلى اتهام الوزير بأنه علماني أو ليبرالي، وأقول لهؤلاء إن وزيرهم لا يرتقي لأن يكون ذا فكرٍ أو صاحب ثقافة حتى ينسب إليهما، وإنما هو مستعرِضٌ لرعوناته بما يملكه من سلطة سخّر لها مكتب الإعلام بوزارته ينمقها ويزخرفها.
بالعودة لمسألة التعليم الديني فإن أهميته -لمن لم يدركها- أنه يوفر بيئة آمنةً لتلقي العلم الشرعي بعيداً عن الآراء المتطرفة أو الأفكار المستوردة، ودون تعصب أو تشدّد، بل بما تلقاه علماء البلاد كابراً عن كابر، محافظين على هوية المدرسة الشرعية ومذهب البلاد، ليتخرجوا مدركين للواقع قادرين على معالجة مشاكله وإصلاح خلله بما يتوافق مع الشريعة ويراعي أحوال مجتمعهم.
التضييق على التعليم الديني وتنفير الطلاب منه بتهميشه وازدراء مؤسساته ومعاهده والسعي إلى إلغائه إنما هو فتح المجال للأفكار الوافدة بتطرفها وتعصبها لتعصف بشبابنا وتوردهم موارد الهلكة بالانعزال عن مجتمعهم ومحاربته، بدل أن يكونوا فيه أهل الإصلاح والإرشاد، فالأولى أن تكون العناية متجهةً للاهتمام بهذا النوع من التعليم، لأنه الخطوة الأولى والأهم لمحاربة الأفكار المتطرفة التي تشوّه الدين وتنفر الناس منه، وتجعله وسيلة لتبرير العنف والتطرف، والتعليم الديني حصنٌ لشبابنا من الأفكار الهادمة للأخلاق والداعية للتفسخ والانسلاخ من عُرَى ديننا وهويتنا وانتمائنا، لأن مدارسنا الشرعية بمن تحويه من علماء وأساتذة هم الأقدر دائماً على تنشئة الجيل الذي يحمل أمانة الدعوة والإصلاح.
ولعلّ أنجح السبل وأنجع الحلول للنهوض بالتعليم الديني هو إحياء الوقف الأهلي الذي يعتني بمعاهد التعليم الديني ومؤسساته، وذلك بتأسيس مؤسسة وقفية أهلية تكون لها مواردها الثابتة لتنفق على معاهد العلم الشرعي وترعى مشايخه وأساتذته وطلابه بعيداً عن عبث الجهلة من المسؤولين، وإني على يقين أن علماء البلاد الأخيار قادرون على حث أهل الخير والفضل ليساهموا في تأسيس هذه المؤسسة، كما أن من آكد الأسباب للنهضة بالعلم الشرعي أن يتم تعليم طلابه من العلوم والمعارف الأخرى ما يوسع مداركهم وينمي ملكاتهم ويجعلهم رواد النهضة الشاملة وطليعة المجتمع وقادته، ولعل هذا الأمر إن وفق الله إليه يكون أهم الأسباب لأن تعود المعرفة الدينية محور ثقافتنا ولُبّ هويتنا.