كانت النخب التقليدية منذ القدم قريبة بشكل وثيق من أنظمة الحكم العربية أو بالأحرى تعتبر فرعا من منظومة الحكم تسند إليها مهمة تشكيل الرأي العام وتوجيهه بحيث يخدم متغيرات الواقع .
وكان ذلك من أيام المفكر المصري “طه حسين”، أي منذ بدايات القرن العشرين، ومن قبله “علي عبد الرازق” الذي أنكر الخلافة في كتابه الشهير “أصول الحكم” وصولاً إلى البعثية وإلى الناصرية وإلى من سمي أخيرا بالعلمانية، فكل هؤلاء ارتبطوا بالأنظمة العربية بل وكانوا كالأصلة تسند بعضها بعضا.
وعند ما قامت الثورات العربية اصطفوا اصطفافا كبيرا مع الحكام المستبدين وصوّرا للشارع أن المشاركة في الثورات هي خيانة وطنية محضة، كما جمعهم ذلك مع بعض شيوخ الدين أو بالأحرى السلفية الجامية المعروفة عندنا بـ” المداخلة” التي تعتبر مجرد تناول موضوع يتعلق بالحاكم خروجا عنه بل وخروجا عن جادة الدين، وهذه الجماعة تُعد من أفضل ما صنعه الطغاة العرب على الإطلاق، وقد قامت هذه الفئة بإطفاء قدسية على المستبدين وشرعنة قراراتهم عبر فتاوي دينية تختزل الصواب في الحاكم وحده وتعتبر كل مشروع لم يأتِ منه بمثابة مؤامرة كونية تستهدف الأمة ومقدراتها.
واستغلوا بطبيعة الحال فقدان الوجهة والبوصلة وغياب مشروع حقيقي لما بعد تغيير الأنظمة الشمولية من جانب محور الثورات العربية، مما ساهم كثيرا في تمادي النخب الليبرالية والعلمانية التي تحمل أفكارا خشبية تضرب عرض الحائط بكل قيم الديمقراطية والتعددية التي نجدها عند النخب العلمانية في الغرب مثلا.
في اعتقادي أن هذه نتيجة طبيعة للكبت الذي مارسته الأنظمة العربية فترة طويلة من تاريخ الشعوب ولم تسمح بالتفكير بشكل مستقل عن هوى الحاكم ونظرته تجاه المتغيرات الفكرية ومتطلبات التعامل مع الواقع.
وبعد أكثر من نصف قرن من شعارات الموت لأمريكا والإمبريالية التي كانت ترفع من قبل الجنرالات العربية الكلاسيكية في الخمسينات القرن الماضي أصبح من الطبيعي أن ترى نخبا لا تحمل أي مبادئ حقيقية، لا سيما الإنسانية منها، ولا معنى أن تدّعي المدينة والانفتاح بل والتحرر وأنت تنظر إلى من يختلف معك في أدنى الجزئيات على أنه عدو يجب استئصال شأفته.
ولا ترى هذه النخب أكبر تهديد على قيمها ومبادئها التي تشترك فيها مع الحكام المستبدين سوى ما تسميه الإسلام السياسي وتسخّر كل إمكانياتها المعرفية للنيل من هذا العدو الأزلي وتشويه صورته لدى الشارع؛ تمهيدا للحكم عليه من قبل شيوخ البلاط بالخروج عن بيضة الدين والفرقة الناجية التي تجيز القتل باسم الدين في صورة لا تختلف عن تلك التي تستخدمها “داعش” إلا في أساليب الحكم وطريقة القتل، فيما يتكفل المستبد بلعب دور الشرطي الذي يمارس البطش والسحل ويستعمل أعتى أدوات التنكيل شافيا بذلك غليل حلفائه في كره الحرية والانعتاق.
إن العقل الجمعي للنظام العربي وأدواته كالنخب الليبرالية سواء التقليدية أو الجديدة التي تحصر الحرية والانفتاح في الانحطاط الأخلاقي فقط دون الحق في التفكير العميق الذي يمكن أن يفكّر بعيداً عن الصندوق الذي يحوي أفكار ونظرية الحاكم الخاصة.
وفي المقابل، لا تزال النخب الفكرية التي ترفض عسكرة الأفكار والدولة والمجتمع وتحاول بناء مستقبل جديد يلبي طموحات الشعوب والقيم الحضارية الإسلامية دون رفض التعامل مع تطورات الحضارة البشرية المعاصرة ـ تفقد الوجهة وتعيش في أزمة حقيقية بشكل ملحوظ بعد الثورات سواء كان ذلك على مستوى القوميات الكبرى أو الأقاليم أو حتى داخل كل قطر وأصبحت في تيهان وضياع كبيرين.
وكان لذلك أثر بالغ في إضعاف دورها كلاعب قوي في موازين القوة بينها وبين المحور الجديد المعروف اصطلاحا بالثورة المضادة الذي يريد إعادة إنتاج الأنظمة العسكرية الكلاسيكية بحلة جديدة أكثر صلفاً وتنكيلا بالخصوم السياسيين.