كل محنة تمر بها ليبيا تكشف لنا عن غياب الموقف الأخلاقي للعديد من النخب التي ضربت بكل المبادئ التي تشدقت بها عرض الحائط، وتخلت كعادتها عن كل القيم التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء، فضلا عن شعب واحد يملك من المبادئ والقيم المشتركة ما لا يمتلكها شعب آخر.
لا يحتاج المتابع للشأن الليبي إلى عظيم ذكاء أو كبير حصافة ليدرك أن اللواء المتقاعد خليفة حفتر كان هدفه الرئيس والوحيد هو السيطرة على ليبيا وحكمها عسكريا، منذ بداية تحركاته في 14 فبراير 2014، وأفصح عن هذه التوجهات في أول بيان له؛ مجمدا الإعلان الدستوري الحاكم للعملية السياسية، علاوة على استخفافه بالانتخابات والدستور في أكثر من تصريح.
ولا غرابة في ذلك من شخص تربى في كنف نظام عسكري، وامتلأ عقله بأوهام السيطرة على الناس بالقوة والعنف.
ولئن كان طبيعيا لجوء حفتر في تسويغ أفعاله إلى النخب، لحشد تأييد الرأي العام المحلي والدولي، فإن ما يثير الاستغراب هو المساندة التي يحظى بها من نخب لها باعٌ في المعارضة ضد نظام القذافي العسكري، ولها كتاباتٌ كثيرةٌ في الدعوة لقيام دولة مدنية ديمقراطية تحترم إرادة الناس وحقوقهم.
شمّاعة الإرهاب هي التي يعلق عليها هؤلاء تأييدهم، في بنغازي أعلنوا عن دعمهم محاربةَ حفتر للإرهاب، حتى بدون شرعية “التي انتزعها فيما بعد من مجلس النواب”.
وفي درنة في الجنوب، أعلن القتال ضد العصابات التشادية، ثم عاد ليعلن أن حربه على “الإرهاب”.
وفي طرابلس، أعلن بداية الحرب على “الظالمين والمجموعات المسلحة”، ثم عاد لنفس الشماعة: “الإرهاب”.
ومع كل هذه التناقضات، نجد هذه النخب تسير وراءه وتؤيده دون أدنى منطق أو حجة. في عدوان حفتر على طرابلس لاذ كثير منهم بالصمت، وانكمشوا على أنفسهم متغاضين عن هذا الغزو للعاصمة، قبل أن يعلنوا عن مواقفهم صراحة بدعمهم لهذا العدوان، دون أية مواراة أو مواربة، وانبرى لفيفٌ كبيرٌ منهم ينظّرون له سائرين في ركاب الإجرام، مهلّلين لدولة العسكر، ومبررين كل الانتهاكات التي لم تستثنِ المدنيين العزّل، ولم تغفل النساء والأطفال الأبرياء.
من بين هؤلاء الإعلامي المعروف والمعارض لدكتاتورية القذافي، محمود شمّام، وهو من بين الذين صدعوا رؤوسنا وأصمّوا آذاننا بالحديث عن الدولة المدنية وحقوق الإنسان، فدعا في منشور على صفحته في فيسبوك إلى حسن معاملة الأسرى من الطرفين، وأنه ضد إهانتهم، مذكرا بالاتفاقيات الدولية، لكنه غضّ بصره عن الطرف الغازي والمعتدي.
ولا يمكن وصف موقف الكاتب والدبلوماسي المعروف عبد الرحمن شلقم إلا بـ”المخزي”، فالمثقف ذو الإحساس المرهف والمشاعر الجياشة تأثر لرحيل الأديب “أحمد إبراهيم الفقيه” ورثاه في كلمات مؤثرة وحساسة، لكنه بهذا المقال استخف بدماء أطفال ونساء طرابلس الذين تقصفهم قوات حفتر دون أناة ولا هوادة.
والأنكى من ذلك، من يتذاكى على الليبيين مدّعيا الحياد، ومساويا بين الطرف المعتدي والمنقلب على الدولة، وبين المعتدى عليه الذي يمثل شرعية الدولة المعترف بها، فيدعو إلى التسامح وحقن الدماء، رغم أن التسامح الذي يطلبه هو ما جعل حفتر يتمادى في إجرامه وانتهاكاته.
هذا ما انتهجه من يصف نفسه بأنه زعيم التيار المدني، رئيس حزب تحالف القوى الوطنية محمود جبريل، الذي لم يكتف بذلك فحسب، بل حذّر من تدمير قدرات ما سماه “الجيش الوطني الليبي”، في إشارة لمليشيات حفتر الغازية، كأنه يقول: دعوا هذه القوات تقتل الأطفال وتدمر المنازل، ولا تمسّوا هذه القوات بسوء فيأخذكم عذاب أليم! ويجب أن لا نُخدع بما يُقال من أن هذه الآراء من قبيل “حرية التعبير”، فمواقف الداعمين لهذا العدوان وهذا الانقلاب لا تنطوي إلا على خيانة بجميع معاني الكلمة، فقد خانوا مبادئهم وعهودهم، علاوة على وطنهم وأبنائه الذين يعانون مرارة هذا العدوان وإجرامه.
إن ليبيا الآن أمام وضع بالغ الخطورة، وكان من الواجب على كل النخب والمثقفين اتخاذ موقف واضح ومحدد ضد هذا العدوان الذي سيقضي على تضحيات كل شهداء الحرية، وآمال الليبيين في بناء دولة القانون والمؤسسات، بدل الميوعة في المواقف التي رأيناها، والتي جرّتنا إلى حالة من التمزق استفاد منها أعداء الخارج والداخل.
الجانب المضيء في حديثي عن النخب في هذه الأزمة هو الموقف الجلي للنخب، لا سيّما الليبرالية منها التي لم تغير جلودها، ولم تتخلَّ عن مبادئها، واحترمت الفكر الذي تحمله؛ بقبول التنوع والتعددية ورفض العسكرة ووأد مدنية ليبيا في مهدها.
للكاتب: المبروك الهريش
المصدر: موقع عربي 21