الحديث عن العملية السياسية يبدو نوعاً من الرجم بالغيب والتوقع لمشهدٍ معالمه ومؤشراته يكتنفها كثيرٌ من الغموض والتعقيد، خاصةً أن رحى الحرب ما زالت تدور في العاصمة طرابلس، وتحصد كل يوم من أرواح شباب الوطن ورجاله، وتطال بدمارها الآمنين من المدنيين وتهدم بيوتهم وتفزعهم وتروعهم، غير أن التصريحات التي تصدر عن كثير من المسؤولين وكذلك عن الدول المعنيّة بالشأن السياسي لا تفتأ تؤكد على أنه لا حلّ في ليبيا إلا الحل السياسي، وأن الحل العسكري لن يؤديَ إلا إلى مزيدٍ من إراقة الدماء وتمزيق النسيج الاجتماعي وتفتيتٍ لكيان الدولة.
بلا شك، كلّ العقلاء يتفقون على حتمية الحل السياسي في ليبيا، وذلك أن الحسم العسكري غير ممكن لأي طرف، ولكن السؤال الذي ينبغي محاولة الإجابة عليه، والبحث في أغواره هو: ما هي ملامح هذا الحل السياسي بعد هذه الحرب الشرسة على العاصمة طرابلس؟
المجلس الرئاسي أكّد في أكثر من مناسبة وتصريح أن العملية السياسية في ليبيا بعد هذه الحرب ستكون على أسس جديدة، وأنها بعد الرابع من أبريل غير ما كانت قبله، وأنه لا حديث عن التفاوض قبل وقف إطلاق النار وانسحاب القوات المعتدية إلى مواقعها، وهذا الموقف الثابت والصارم من المجلس الرئاسي في مستوى الحدث، وينسجم مع حالة العدوان التي تتعرض لها العاصمة طرابلس، والتي كانت إيذاناً بتقويض العملية السياسية ونسفاً لكل مساعي حلّ الأزمة والخروج من حالة الانسداد والجمود.
ولكنّ الفضول قد يجرّ المتابِع إلى التساؤل عن “الأسس الجديدة” للعملية السياسية التي يقصدها المجلس الرئاسي في تصريحاته، وقبل محاولة الإجابة عن ذلك لا بدّ من الإشارة إلى أن الاتفاق السياسي الذي وقّع بين الفرقاء الليبيين كان بوساطة أممية وضمان دولي بالتزام كل الأطراف على تنفيذه، وصدر بذلك قرار دولي منح المجلس الرئاسي الاعتراف به كممثل وحيدٍ وشرعيّ للسلطة في ليبيا، ومع ذلك فقد نكص مجلس النواب ومن ورائه حفتر المسيطر عليه عن تنفيذ ما ترتّب عليهم من التزامات نصّ عليها الاتفاق السياسي، وهو ما أدخل الأزمة في حالة جمود سياسي عطّل كل المؤسسات وكرّس الانقسام في المؤسسات، وقدّم خلالها المجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي الكثير من التنازلات التي لم تشفع عند مجلس النواب ورئيسه عقيلة صالح، ولا لصاحب الكلمة عليه خليفة حفتر، بأن ينعشوا العملية السياسية ويدفعوا بها إلى الأمام، وكان آخر هذه التنازلات هو إقحام حفتر في العملية السياسية وما تمّ في اتفاق أبوظبي الذي سارعت الدول الكبرى إلى دعمه وتأييده واعتباره تمهيداً هاماً لما سيتوافق عليه الليبيون في الملتقى الجامع، غير أنّ حفتر انقلب على كل ذلك وشنّ هجوماً غادراً على العاصمة طرابلس وأعلن الحرب قبل انعقاد الملتقى الجامع بعشرة أيام معلناً أنه لا يقبل بالمشاركة السياسية مع أحد، وأنه لا يبصر سدّة الحكم إلا من فوهات البنادق و”سبطانات” المدافع.
ويمكن القول إن الأسس الجديدة للعملية السياسية بعد هذه الحرب هي: أن حفتر لا يمكن أن يكون شريكاً في العملية السياسية لأنه غير مؤمن بهذه الشراكة، لذلك فإنّ التفاوض معه ليس إلا عبثاً ومضيعةً للوقت، ولا يمكن ائتمانه على قيادة المؤسسة العسكرية وهو الذي أثبت دوماً إصراره على نهج الانقلابات، كما أن المجتمع الدولي الذي طالما صرّح وأكّد على دعمه للعملية السياسية انكشفت حقيقة مواقف دوله وظهر الانقسام وتضارب المواقف فيما بينها، ولا أظن أن التعويل على الموقف الأممي أو الوثوق فيه ممكن إذا أصرّ على وجود حفتر في المشهد، لذا فهو مطالب بضمانات حقيقية وجادّة لإلزام مختلف الأطراف بالعملية السياسية.
وهنا يجب التنبيه إلى أنّ سعي بعض الأطراف الدولية إلى جرّ المجلس الرئاسي إلى التفاوض على وقف النار ليس إلا محاولة قذرة لحفظ ماء وجه حفتر الذي انكشفت حقيقة عصاباته المجرمة التي هي أبعد ما يكون عن النظامية العسكرية، ولا شك أن مجرد التفاوض على وقف إطلاق النار يعني ضمناً القبول بالمساواة بين المعتدي والمعتدى عليه، وتقدم قوات جيش الوفاق على الأرض يجعله غنياً عن هذا النوع من المفاوضات.
يمكن القول أن المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة قادرون على تشكيل جبهة وطنية قوية خاصة بانطلاق مجلس النواب في عقد جلساته من العاصمة طرابلس والذي يؤمل أن تتخذ الشكل القانوني الكامل في انعقاده مما سيؤذِن بتحرّر هذا المجلس من الارتهان لقيادته المتعنّة العاجزة، وإذا ما تشكّلت هذه الجبهة فأعتقد أنها ستكون حصن مدنية الدولة وجسر العبور إلى مرحلة دائمة ومستقرة، كما أنها ستكون قادرة على جعل المجتمع الدولي أكثر التزاماً بضمان إنجاح العملية السياسية.
ويبقى التحدي الأصعب هو خلق حراك اجتماعي يصل مداه إلى المنطقة الشرقية ليدفعها إلى التفاعل مع الحالة الوطنية برفض مشروع العسكرة والاستبداد، وغالب الظن أن الأغلبية الصامتة في المنطقة الشرقية ستتحرك متى ما ارتخت القبضة الأمنية القوية لعصابات حفتر التي بدأت تندحر قواتها على تخوم العاصمة طرابلس والتي -للأسف- تدفع قبائل الشرق الفاتورة الأكبر من دماء أبنائها في سبيل إرواء تعطش هذا المجرم إلى السلطة.
الكاتب: علي أبوزيد