ذكرى فبراير الثامنة لا يمكن أن نناقشها ونحن نراجع أنفسنا من منطلق المؤيد والمعارض، أو من وجهة نظر النادم عليها أو المتمسكة باللحظة الثورية فيها، فهذا النقاش ليس إلا سفسطةً لا تؤكد ما نعانيه على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي من أزمة الفراغ التي ملأها نظام الاستبداد طيلة أربعة عقود بأوهام الأممية والوحدوية وتركت في وعينا الجمعي رواسب صلبة لازالت الهزّات التي نتعرض لها على المستوى الوطني تفتتها لعلّنا نتخلص منها.
إن فبراير كانت لحظة وافقت قدر هذا الشعب ليتخلص من حكم الاستبداد وشمولية الفرد المطلقة الذي كتم أنفاس الحرية وحرم شعبه منها، ومارس عليه شتى أنواع الطغيان والقهر والإذلال، وسخّر موارد بلاده ليبتني لنفسه مجداً من الخيالات والأوهام وأضغاث الأحلام ويهدر أموال شعبه في أدغال في إفريقيا وقفارها سعياً لألقاب لا تدل إلا على جنون العظمة الذي يعانيه هذا المستبد، هذه اللحظة التي كانت إيذاناً بزوال هذا الطغيان والظلم كانت أيضا موعداً لينكشف الليبيون على أنفسهم، وليجدوها تواجه عيوبها، عارية أمام كل أدوائها وعللها التي كانت خافية كامنة تحت أوجاع الداء الأكبر والعلة الأصعب (الاستبداد والطغيان).
زوال حكم القذافي وانهيار جماهيريته كشف عن حجم الفراغ الهائل الذي كانت تملؤه هذه الظلمات في الكيان الليبي، هذا الفراغ الذي صارت تتقاسمه العصبية للقبيلة والنزعة للجهوية والحنين إلى عبودية المستبد، فراغ تعلوه هشاشة في المؤسسات وأزمة في النخبة وتصدّع في النسيج الاجتماعي، كل هذا انعكس اضطراباً في تشكّل الهوية الوطنية الجامعة، وعدم القدرة على صياغة العقد الاجتماعي الذي يستوعب الطيف الليبي المتنوع ويتفهم اختلافاته ويمكّنه من التعايش وإدارة الخلاف بما يمضي بالوطن قدُماً نحو الاستقرار والازدهار.
فبراير كانت منعطفاً حاسماً في حركة المجتمع الليبي جعلت الدكتاتورية وراء ظهره، وما تلت فبراير من ارتدادات وهزّات ليست إلا صهراً لمعدن هذا الشعب لتنفي عنه خبث الدكتاتورية وشوائب الاستبداد، وتحميل ثورة فبراير جريرة أزماتنا ووِزر صراعاتنا ظلم بيّن ولغو من القول لا معنى له، وحال هؤلاء -ممن ندم أو ممن لازال يرفض فبراير- كطائرٍ حُبِس ومنع أن يطير حتى وهَن جناحاه وثقُل جسمه، فلما خُلّي عنه وأطلق في الجوّ تخبّط وخذله جناحاه وهوى به جسده، فلَام الجوّ ولعن الحرّية وحنّ إلى القفص واشتاق إلى الحبس، ورفض المران على الطيران وركن إلى الخمول وآثر السلامة.
فبراير في عامها الثامن لازالت تكشف عن أدوائنا وتكشف عللنا، وهي كما كانت في سياق الربيع العربي، بقيت في سياقه ولم تكن استثناءً، فحوربت من رعاة الاستبداد الذين لا زالوا يحاولون بعثه من جديد في مشاريع الثورة المضادة والدكتاتورية الجاهزة، وتساقطت الأقنعة وظهرت من ورائها الوجوه القبيحة، وتحطمت على صخرة الحقيقة مشاريع الوهم التي كانت تدعيها النخب التي تنادي بالمدنية والديمقراطية وترفع شعارات الوطنية، هذه النخب التي لم تملك المشروع الحقيقي ولم تستطع التعايش مع الآخر وتنافسه بعيداً عن المغالبة وآثرت لعق أحذية العسكر على التوافق الوطني، وصارت أبواقاً من الزيف تنادي الوطن بأن يعبر إلى سلامته من بوابة العسكر التي ليست إلا ثقباً أسود ستتيه وتتخبط فيه الشعوب تحت أسواط الاستبداد.
فبراير في عامها الثامن لازالت ترفض أن تكون مشروعاً مستداماً لأحد؛ لأنها كانت لحظة حق وموعد صدق لكل الليبيين، أدركه منهم من أدرك وسيدركه البقية ولو بعد حين، لذلك فإن كل من أرادها مشروعه وحده رفضته، فهي بداية مشروع بناء الدولة وليست مشروعاً لسواه، وبهذا كانت فبراير مناسبة للتيارات الإسلامية أن تراجع نفسها وتنظر في آليات، وتعيد اكتشاف ذاتها، فهي ليست استثناءً في ظهور عللها وما يعتريها من قصور، فمجتمعاتنا في حراك مستمر متسارع، والوعي يتغير والأفكار تتماوج والخطاب الفكري بخلفياته المتنوعة يتدافع، والشعارات دون المشاريع استهلكت وانصرف عنها الناس، ومن أراد أن يكون له دور عليه أن يجدد من آلياته وخطابه ويملك المشروع ويعمل في نطاقه ووفق إمكاناته مع حسن إدراك الواقع وفقه التعامل معه.
فبراير بآلامها وأوجاعها ليست إلا ولادة الوطن من جديد، وطن له تركة ثقيلة من الظلم والطغيان، وطن يحبو ويتعثر ويكبو في سبيل النهضة والازدهار والرفاه، ولكن بعزم الصادقين وإيمان المخلصين من أبنائه لا يتراجع وسيصل إلى ما يصبو إليه رغم مشقة الطريق وطوله وكثرة الصعاب وشدّتها، والثمانية أعوام رغم ما فيه من أحداث أنضجت الفكر وسمت بالوعي قليلة في أعمار رشاد الشعوب ونهضتها.
المصدر: موقع ليبيا الخبر