استقالة خالد المشري وانسحابه من جماعة الإخوان المسلمين الليبية أثارت لغطاً كبيراً في وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأت موجات التشكيك في مصداقية هذه الاستقالة وأنها ليست إلا مناورة وسياسية وإعادة تموضع وتبادل أدوار للجماعة مع أذرعها التي تطول ما تشاء من أركان وزوايا الدولة الليبية –بحسب المشككين-، ومع أن المشري بيّن أسباب استقالته وذكر دوافع انسحابه من الجماعة فإنها لم تشفع للرجل ولم تجعله يتفادى موجة الهجوم التي تعرّض لها، وكان يمكن أن يُنظَر للأمر على أنه موقف جيّد وشفّاف من الرجل الذي لم يتردّد في إعلان انتسابه للجماعة، وكان صريحاً وشجاعاً في إعلان انسحابه منها.
استقالة المشري مثّلت فرصة مواتية للتيار السياسي المناوئ والمنافس لتيار الإسلام السياسي ليعزف نشازه المعتاد ويكرّر تهمه المعهودة التي أصبحت رواسب متكدّسة من الزيف في الوعي الجمعي، الذي يتوجه بالمجتمع إلى رفض التعددية الفكرية وقبول الآخر، وأن حاملي الفكرة الإسلامية كأساسٍ لمشاريعهم ليس من حقهم الانخراط في الشأن العام بل يجب إقصاؤهم وإبعادهم بل نفيهم ودوسهم إن أمكن، وهذا بلا شكّ يهدد السلم الاجتماعي ويؤدي إلى انشطار المجتمع وتمزقه وربما تصادمه إذا تفاقم الأمر.
أكثر ما ينتقد به تيار الإسلام السياسي هو استغلاله للدين في الخطاب السياسي وتوظيف العاطفة الإسلامية لاستقطاب الناس، ويمكن استنتاج أن المناوئين والرافضين لتيار الإسلام السياسي يطالبون بتحييد الخطاب الديني في السياسة، وهذا أمر غير ممكن في المجتمعات المسلمة التي تمثل العقيدة أساس انتمائها وجوهر عقيدتها، لذلك فإن توظيف الخطاب الديني لم يسلم منه أي ممارس للسياسة في هذه المجتمعات، بل نجد أن أغلب هذه التيارات السياسية تتبنى أو تقارب خطاباً دينياً يلائم مسارها ويبرر توجهاتها، فالأنظمة الاستبدادية لها مشايخها ومنابرها التي تنافح وتدافع عنها، وللتيارات التي تدّعي التقدّمية والحداثة لها منظروها الذين يسوقون لآراء في الدين تحت مظلات القراءات المعاصرة والخطابات التجديدية، وكلا التيارين (الاستبدادي – ومدّعي التقدّمية) يغضّ الطرف عن السلفية المدخلية رغم تطرفها لقيام فكرها على الخضوع للحاكم المتغلّب وعدم إيمانها بآليات الممارسة الديمقراطية، كما أنهما يُبديان الارتياح في التقارب مع التيار الصوفي المهادِن لهم والمتقوقع بعيداً عن السياسة -وإن كانت هناك محاولات اليوم لإحلاله محل الخطاب الداعي لشمولية الفكرة الإسلامية-.
إذاً لا يمكن لأي تيار سياسي في مجتمعاتنا المسلمة أن يتجاوز الدين في خطابه، لأنه العنصر الأكثر تأثيراً في وعي الناس وتحريكاً لعواطفهم، لذلك فإن النقد يجب أن يتوجه إلى عناصر هذا الخطاب وفحواه ومضامينه، لا إلى استخدامه الذي يقع فيه الجميع، وهذا النقد تعجز عنه التيارات المناوئة للتيار الإسلامي، فليس لدى أغلبها القدرة العلمية ولا الأدوات المعرفية لنقد خطاب التيار الإسلامي بموضوعية تبيّن مكامن الخلل والضعف فيه، لذا فإنها تلجأ إلى حملات التشويه والشيطنة للإسلاميين والاستمرار في عملية تزييف الوعي المجتمعي من خلال سطحية النقد وتعليب التهم وتجهيزها لتلصق بكل مشروع إسلامي، حتى صارت لوناً من السماجة ألِفها الناس واعتقدها كثير منهم لأنهم اعتادوها في أسماعهم لا غير.
سطحية النقد التي ينتهجها من يناوئون تيار الإسلام السياسي تجعلهم يضعون هذا التيار في بوتقة واحدة ويحاكمونه جملةً دون اعتبار إلى تعدد الاجتهادات والتوجهات داخل هذا التيار التي قد وصلت إلى مرحلة الصدام الفكري أحياناً، هذه الاجتهادات والتوجهات التي وجدت نتيجة لنشاط هذا التيار في بيئات مختلفة وخوضه تجارب متعددة، أكسبته المرونة في تقبل النقد -ولو كان جائراً-، وجعلته في حالة مراجعة متكررة لأفكاره ومنهجياته وأدواته التي تشكل مشروعه، مما انعكس على قدرته الفائقة على البقاء والتجذر في المجتمع مع نضج وتتطور.
إن التيارات المناوئة للإسلاميين لم تستطع تقديم المشروع الذي يحرّك وجدان الأمة وقد أتيحت لها فرص تفرّدت فيها بساحة السياسة وميدان السلطة، فلم يفلح الخطاب القومي ولا العلماني ولا التقدمي والاشتراكي في خلق مشروع حقيقي في المجتمع، وظل الناس رهائن الشعارات الرنانة حتى صفعة النكسة في 1967، وبعدها عاد تيار الإسلامي السياسي للواجهة يقود الحراك المجتمعي غالب الأحيان، وبقيت التيارات الأخرى منكفئة على نفسها في أبراجها العاجية مُنتشية بنخبويتها الفكرية تغازل السلطة المستبدة غالباً وتهادنها أحياناً.
واليوم بعد موجة الربيع العربي وما تلاه من ارتدادات لم يجد تيار المناوأة إلا شعارات الوطنية ليحارب بها الفكرة الإسلامية العابرة للحدود –على حدّ وصفه- والتي تجرّ مع التطرف والإرهاب وإهدار السيادة والتمكين للأجنبي–كما يدّعي-، ورغم ما في هذه التهم من دعاوى وباطل إلا أنها كانت مناسبة ليراجع التيار الإسلامي قضية (قُطْريّة المشروع أو مشروع الأمة) لتتجه أغلب تياراته اليوم للعمل داخل أقطارها وتتبنى الخطاب الوطني الصادق المسنود بالمرجعية الإسلامية المتزنة، ولتستمرّ التيارات المناوئة في بكائية الوطن الكاذبة مرتميةً على أحذية العسكر تستقوي به مفرّطةً بشرف المنافسة السياسية كاشفةً لسوأتها ليس لها مشروع سوى شيطنة خصومها، متعنتة في عدائها متجاهلةً للموضوعية رافضة أن يسع الوطن الجميع.
المصدر : موقع ليبيا الخبر