ما أشيع الخرافة في مجتمعنا العربي! إذ هي خالدة، لا يغيبها مرور الزمان، قوية، لا تهزمها حقائق، نافذة، لا يستوقفها جهد، أخاذة لا يبطلها تقدُّم، دوَّارة لم تترك مجالًا إلا ونزلت به، مستمرة، تتنقل بين عقول الناس وألسنتهم، والحقيقة أنَّ أكثر الخرافات شيوعًا، وبقاءً بين الناس هي الخرافة الطبية؛ ذلك أنَّ مجتمعنا العربي، شحيح الوعي الطبي، مضعوف الرغبة في القراءة، ليس له نصيبٌ من حضارة القرن، وعلومه، غارقٌ في بحر العادة، أسير في سجن النصب، والتقليد، بارعٌ في خلط الخرافات الصحية بالأمور الدينية، مازال يعتقد أن بول الإبل سيشفيه من عشرة أمراض مزمنة، وأن لبن الماعز سيقضي على آلامه الكامنة.
غير أن الخرافة قد عرفت طريقها إلى بلاد الحضارة الحديثة، لكنها خرافة غير التي نعيش فيها هنا؛ فلا تسبب ضررًا، ولا تقوم عبثًا؛ ذلك أنها تستند على تفسير علمي، ولكنه مغلوط التمثيل والتفنيد والشرح -أكتب ذلك ولست ممن يؤمنون أن الحضارة لا تعرف سكنًا غير أوروبا، أكتب ذلك آسفًا، إنها الحقيقة-ومثال ذلك الخرافة التي تربينا عليها جميعًا، ورددناها خلف أمهاتنا وآبائنا طويلًا عن الجزر، فكيف بدأت الخرافة؟ وما هي أكثر الخرافات الطبية الضارة شيوعًا في مجتمعنا العربي؟ وما هي الحقائق الثابتة التي تمحي جذورها من عقولنا؟
الخرافة الأولى: “الجزر يقوي النظر”
الإنفلونزا عدوى فيروسية، والمضاد الحيوي لا يعالج إلا العدوى البكتيرية، ومن ثَمَّ فالأمر أشبه بكونك تحاول أن ترتدي حذاء طفل في الرابعة من عمره
في الحرب العالمية الثانية، امتلك الطيارون البريطانيون أداة جديدة لتغيير قواعد اللعبة للعثور على أعدائهم في الليل -الرادار- لكن العدو علم بهذه التكنولوجيا الجديدة للحلفاء، وبلا شك سيشرعون في نسخها؛ لذلك أطلق الجيش البريطاني شائعة أنَّ طياريه لديهم قدرة عالية في الرؤية ليلًا، وأعزوا ذلك إلى تناولهم الجزر، بدأت القصص الإخبارية في الظهور في الصحافة البريطانية وشاعة الحكايات بين الناس، حتى بدأ الكثيرون يأكلون الجزر، ويزرعونه في منازلهم، كانت هذه هي بداية القصة، وتكمن الخرافة في أنَّ الجزر لن يجعلك تتخلى عن عدساتك اللاصقة، أو نظارتك، أو يعالجك من أمراض بصرية معروفة، أو يهبك بصرًا نفاذًا لا يضعف، مهما أكلت منه، فإنه يحتوي على نسبة من فيتامين (أ) الذي يلعب دورًا هامًا في الصحة العامة للعين والشعر والجلد والمناعة، والمصادر الغنية به كثيرة لا تقتصر على الجزر مثل اللبن والبيض والبازلاء.
الخرافة الثانية: “لا تأكل السمك والبيض في البرد والإنفلونزا”
من أكثر الخرافات شيوعًا بين الناس، والتي لا أساس علمي لها على الإطلاق، ذلك أن العكس صحيح؛ فالأسماك الغنية بالزيوت -مثل سمك السلمون والتونة والسردين والماكريل- غنية بأحماض أوميجا3 الدهنية- وهي مركبات تساعد على تقليل الالتهاب في الجسم، ويمنع الالتهاب المُزمن جهاز المناعة من العمل بشكل صحيح ويمكن أن يساهم في نزلات البرد والانفلونزا، وهذه الأسماك هي مصدر جيد لفيتامين (د)، والذي تستخدمه الخلايا المناعية في الجسم، وقد أشارت دراسة بريطانية إلى أن مكملات فيتامين (د) يمكن أن تحمي أكثر من ثلاثة ملايين شخص من نزلات البرد أو الإنفلونزا في المملكة المتحدة كل عام، يأتي هذا في أعقاب تقرير نُشر عام 2016 ينص على توفير مكملات فيتامين (د) للجميع بسبب قلق المسؤولين من أن المستويات الكافية قد لا يمكن تحقيقها من خلال النظام الغذائي وحده، لذلك تناول السمك والبيض واكسر الخرافة.
الخرافة الثالثة: “المضاد الحيوي يعالج الإنفلونزا”
أكثر الخرافات ضررًا، وربما لن يأتي ما هو أضر منها، خرافة لا يمكن أن يصدقها عقل؛ فالإنفلونزا عدوى فيروسية، والمضاد الحيوي لا يعالج إلا العدوى البكتيرية، ومن ثَمَّ فالأمر أشبه بكونك تحاول أن ترتدي حذاء طفل في الرابعة من عمره، وأنت في الخامسة والعشرين، الأمر الأكثر ضررًا أنك بذلك تساعد على انتشار البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، بلغة أخرى أنت تساهم في إحياء أمراض فتاكة ظنت البشرية أنها ذهبت بلا عودة، مثل السل، حتى أن الأمر قد تخطى ذلك، وباتت الخرافة أوسع؛ إذ يستخدم المرضى المضاد الحيوي لعلاج أي شيء آخر، كأنه عصا الشفاء السحرية، غير آبهين لعظم الكارثة الوشيكة.
الخرافة الرابعة: “أوقف الدواء عندما تتحسن”
يعتقد الكثيرون أنه متى شعر بتحسن، وعاد إلى صحته، فإنه عليه أن يوقف تناول الدواء، والحقيقة أنه لا، خاصة في بعض الأدوية التي تحتاج إلى فترات زمنية متصلة، مثل المضادات الحيوية، الأمر الذي سيترتب عليه عواقب وخيمة، أشد من الإصابة الأولى، عليك دائمًا أن تكمل المدة العلاجية، كما حددها الطبيب، وألا ترغب عن تناول الدواء إلا باستشارة الطبيب، واتبع قواعد الفاعلية العلاجية الخمسة، واسأل الطبيب:
كم مرة في اليوم عليَّ أن أتناول هذا الدواء؟
ما هي الجرعة في المرة الواحدة؟
هل أتناوله قبل الطعام أم بعده؟
هل للدواء تأثير على الأدوية الأخرى التي أتناولها؟
وما الفترة الزمنية التي سأستخدمه فيها؟
الخرافة الخامسة: “الاكتئاب بعد عن الله وليس مرضًا”
الكركديه يعمل على تخفيض ضغط الدم، وهذه الخرافة قد تؤدي إلى نتائج كارثية، إذا طُبقت بهذا الخطأ الشنيع
هذه الخرافة تنبض داخل غالبية المجتمع العربي كما ينبض القلب؛ وكثيرًا ما أدت إلى انتحار المرضى، الشباب منهم خصوصًا، ذكرت في الخرافة الرابعة أنها الأكثر ضررًا، لكن هذه الخرافة هي الأخطر والأضر بلا شك؛ فالاكتئاب مرض خطير يرتبط تشخيصه بالعوامل النفسية أكثر، ولا يمكن الاستهانة به، أو الجزم بأن الانشغال في العمل سيغيبه، أو أنَّ ركعتين صلاة سيقضيان عليه، فالأمر أعقد من ذلك بكثير، الاكتئاب لا يقل خطورة عن السرطان، وقد شهدت السنوات الأخيرة وفيات كان السبب الرئيس فيها هو الانتحار، ولعل أسوأ ما في هذه الخرافة أنها تجعل المجتمع ينتقص من المريض، ويحرمه من حقه في العلاج، بل ويسخر منه أحيانًا، ويدفعه للانتحار.
الخرافة السادسة: “تحتاج إلى المُكملات الدوائية كل يوم”
ربما سمعت اختصاصي تغذية وهو ينصح شخصًا آخرًا بتناول المكملات الدوائية كل يوم حتى يتنعم بصحة جيدة، وجسد قوي، والحقيقة أنَّه لا دراسة أو باحث يؤكد ذلك، أو يتفق معه؛ فالنظام الغذائي القويم، الذي يحافظ على تناول الخضراوات، والفاكهة، والطعام المنزلي، المنتقى، والمُعد بطريقة صحية، يتكفل بالمحافظة على دوام الصحة، وقوة الجسد، لكن في بعض الحالات قد يصف الطبيب المكملات، لأنها تمثل جزءًا من العلاج، فعليك أن تأخذها في هذه الحالة لا شك.
الخرافة السابعة: “الكركديه ساخنًا يرفع ضغط الدم وباردًا يخفضه”
خرافة أخرى، لا أساس لها، شاعت بين المرضى، وبخاصة في مصر؛ فالكركديه (Hibiscus) يعمل على تخفيض ضغط الدم، باردًا كان أو ساخنًا، وهذه الخرافة رغم ما تبدو عليه من قلة الأهمية في نظر البعض، إلا أنها قد تؤدي إلى نتائج كارثية، إذا طُبقت بهذا الخطأ الشنيع، فتخيل معي أن هناك مريضًا بضغط الدم المنخفض، وقد شرب كمية غير قليلة من الكركديه الساخن، حتى يعالجه، فساء الأمر أكثر وتدهور، وضغط الدم من الأمراض القاتلة التي لا مساحة للتفاهم معها في حالة ارتكاب مثل هذه الأخطاء القاتلة.
إن عدد الخرافات الطبية كبيرٌ لا يمكن الإلمام به في مقالٍ واحد، وإن كنا نعتقد أن الوقوف في وجه كل خرافة مفردة عينًا لعين، هو الحل، فإننا ننشد الوهم؛ ذلك أن نشر الوعي، والاهتمام بتثقيف العامة طبيًا، وإمدادهم بالمعلومات الأساسية حول الأمور الأكثر أهمية، وتوفير سبل للبحث عن المعلومة الصحيحة، هو الحل، وإن السؤال مفتاح كل ذلك، فإذا سمعت أو قرأت معلومة طبية من أحد، فاسأله لماذا؟ وكيف؟ وما مصدرك؟ فإن أجاب إجابة منطقية، لها دليلها العلمي، ومصدرها المحقق، فهو صادق بها، وإن ردد سمعت فلان، أو قالوا، أو أي شيءٍ من هذه الجمل التكرارية، فلا تسمع له، ولا تأخذ بما يقول، اكتب لنا أنت أيضًا عن أكثر الخرافات الطبية الشائعة، في بلدك، أو تعتقد أنها كذلك، وسأجيب عليك، وأخبرني أي الخرافات هنا كنت تعتقدها حقيقة علمية؟
المصدر:موقع الجزيرة نت