كما هو معلوم، تعاني ليبيا منذ 2014 من انقسام سياسي حاد، ألقى بظلاله على أغلب مؤسسات الدولة، التشريعية أو التنفيذية، ولم يسلم منه إلا القضاء، وهو على الرغم من عدم انقسامه لكنه غائب أو ربما عاجز عن القيام بمهامه في ظل هذا الانقسام.
التأثيرات غير خافية نتيجة هذا الانقسام: تنازع في الشرعية السياسية، وانهيار اقتصادي رغم خطوات الانتعاش الأخيرة، وشرخ اجتماعي عميق، حدا بكل الوطنيين إلى جعل ترميمه -أي الانقسام- خطوة أولى لبداية حل الأزمة بكل امتداداتها وأشكالها.
مبادرات عديدة لتوحيد المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية لم تحقق نجاحًا يُذكر، بداية بالاتفاق السياسي الذي أخفق في أن يكون الجسم المنبثق عنه “المجلس الرئاسي وحكومته” ممثلا لكل مناطق ليبيا، ومرورًا بفشل توحيد المؤسسة العسكرية الذي ترعاه مصر، وانتهاءً بالمؤسسات المصرفية والرقابية كالمصرف المركزي وديوان المحاسبة.
آخر هذه المبادرات هي مبادرة توحيد المؤسسات الأمنية التي تكلّلت باجتماع بين مديري الأمن في العاصمة طرابلس وبنغازي احتضنته الأخيرة، وحظي بترحيب واسع من مختلف الأطراف السياسية وحتى من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي.
لا يمكن فصل هذه الخطوة عمّا يحدث على المستوى السياسي في البلد؛ لأن الأزمة الحقيقية في ليبيا هي أزمة سياسية، وهي من تجرّ وراءها باقي الأزمات، ومن ضمنها الأمنية.
يحتاج المتابع إلى إيجاد سبب لسماح قائد الجيش التابع لمجلس النواب في طبرق خليفة حفتر بهذه المبادرة، وسماحه أيضا للاجتماع بأن يُعقد في مدينة بنغازي، وهي المدينة التي يتبجح حفتر بأنه حرّرها من الإرهاب، خاصة بعد إصداره في سبتمبر من العام 2017 بلاغًا يحظر فيه مزاولة أي عمل لأي مسؤول يتبع حكومة الوفاق، وتحذير رئيس الأركان التابعة له عبد الرزاق الناظوري من التعامل مع المجلس الرئاسي وحكومته التي وصفها بغير الشرعية، أو مع أي طرف تابع أو موالٍ لها.
مُستبعدٌ أن يكون دافع حفتر هو الرغبة في توحيد المؤسسات؛ لأن الوقائع السابقة تقول إنه العائق الرئيس أمامه، لكن الأرجح وحسب بعض التسريبات، أن الدافع هو الضغط الدولي على حفتر، والرسالة التي وُجهت له في باليرمو، وقبلها في روسيا، بأن الاعتراف الدولي لا يزال للمجلس الرئاسي وحكومته، وعلى الأغلب لن يُنزع هذا الاعتراف إلا بعد انتخابات متوافق عليها محليا ودوليا، إضافة إلى فشل تعديل الرئاسي وإزاحة السراج؛ وهو ما اضطره إلى مجاراة الواقع السياسي الجديد التقاطًا لبعض الأنفاس وكسبًا لمزيد من الوقت.
وهذا ما جعل حفتر يحاول تدارك ما أمكن من طموحاته، بعد الفشل في إداركها كلها، فأوعز إلى بعض النواب التابعين له بالتحرك والمشاركة في الرئاسي وحكومته، وهو ما تجسّد في حادثتين، الأولى: رغبة القطراني والمجبري بالعودة إلى عضوية الرئاسي رغم عدم انتفاء أسباب انسحابهما، والثانية هي مبادرة توحيد المؤسسات الأمنية التي هي محور حديثنا في هذا المقال.
فإذًا، نستطيع القول إن التحركات الأخيرة هي مجرد مناورة سياسية تهدف إلى تحقيق بعض المكاسب في ظل ضيق مساحة التحرك للأسباب التي ذكرت.
وإذا قلنا إن رجوع المجبري والقطراني إلى عضوية الرئاسي لن يحقق إلا مزيدًا من عرقلة الرئاسي، خاصة بعد تحركاته الأخيرة التي أسهمت في حل عدد من المشاكل المرتبطة مباشرة بالمواطن؛ فإنه من الممكن الاستفادة من مبادرة توحيد المؤسسات الأمنية في تنسيق الجهود لمحاربة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، والتأسيس لجهاز أمني من شأنه فرض الأمن على كافة التراب الليبي.