لا يستطيع المتابع للمشهد الليبي أن يتجاوز حالة التجاذب بين جماعة الإخوان المسلمين الليبية وحزب العدالة والبناء، ورفض الأخير ما سمّاه محاولة الجماعة الاستحواذ على الحزب والسيطرة على القرار فيه بما يخالف نظامه الأساسي الذي ينص على استقلاليته عن الجماعة –حسب بيان دائرة الإعلام في الحزب-.
حدث هذا نتيجة ما سُرِّب عن إصدار الجماعة بياناً داخلياً تحرّض فيه أعضاءها المنتسبين لحزب العدالة والبناء على تجديد عضويتهم استعداداً للانتخابات الداخلية للحزب والتي ستفرز قيادة جديدة له بعد إعلان رئيسه الحالي “محمد صوّان” رفضه التمديد لنفسه أو ترشيح نفسه مرة أخرى لرئاسة الحزب، وهذا يشير بوضوح إلى نية الجماعة العودة بقوة إلى معترك السياسة خاصة وأن البلاد مقبلة على انتخابات عامة محتملة العام القادم.
حالة التجاذب التي ربما بلغت درجة من الحدّة غير خافية بين قيادة الحزب والجماعة تؤكد بصدق اختلاف التوجه السياسي عمق الخلاف بينهما، وأن قيادة الحزب مستقلةٌ في قرارها بعكس ما يروّج له المناوئون للحزب ومواقفه من التيارات الأخرى، وعند البحث عن جذور الخلاف نجده بدأ منذ انخراط الحزب في مسار الحوار الذي بدأ أواخر سنة 2014، حيث أدركت قيادة الحزب من خلال تعاطيها مع الواقع ضرورة هذه الخطوة للبقاء بفاعلية في المشهد بينما رفض الطيف الأوسع من الجماعة هذه الخطوة مما أدى إلى تصدعات وشروخ كادت تودي بالحزب لولا تماسك قيادته وحسن استثمارها للإمكانات المتاحة لديها على الصعيد السياسي الذي يعتبر نجاحاً هاماً إذا قورن بما آلت إليه غيره من الأحزاب.
استقال بعض أعضاء الجماعة الرافضين لتوجه الحزب المنحاز لمسار الحوار وآثر آخرون الانعزال ليشاهدوا ما يؤول إليه الحزب، والذي تمكن من البقاء في المشهد كأكثر الأحزاب تأثيراً وأقدرهم مرونة على التعاطي مع المتغيرات السياسية.
وبإعلان قيادة الحزب الحالية عدم ترشحها مرة أخرى يبدو أن الجماعة تريد العودة إلى المشهد السياسي مرة أخرى من بوابة حزب العدالة والبناء التي ساهمت في تأسيسه، والذي له الرصيد الأكبر بين الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة، ولكن يبدو أنها هذه المرة تريد العودة بسيطرة أكبر على الحزب وعلى قراره السياسي، وهنا لا بد من التساؤل هل الجماعة بوضعها الحالي قادرة على خوض غمار السياسة والتأثير في المشهد الوطني؟
بعيداً عن الخطاب المعادي للجماعة الذي يصورها محوراً للشرّ وأصلاً للبلاء، فإن كل منصف يدرك أن أدبيات جماعة الإخوان المسلمين هي أكثر أدبيات الحركات الإسلامية اعتدالاً ومرونة وتجاوباً مع الواقع وتأصيلاً له، إلا أن الحالة الخاصة بكل بلدٍ يوجد فيه من ينتمي لفكر هذه الجماعة تفرض عليهم أن تكون لهم مرجعيتهم الفكرية المستقلة القادرة على التعاطي مع واقعه بما يحقق رؤيتهم المنسجمة مع المصلحة الوطنية والمؤطّرة في إطارها.
والناظر لحال جماعة الإخوان المسلمين الليبية لا يخفى عليه انعدام هذه المرجعية الذي انعكس تيهاً وشتاتاً بين أفرادها، وغياباً لنشاطها الدعويّ وتأثيرها في المجتمع، بل بعبارة صريحة وواضحة يستغرب المتابع لحال الجماعة كيف يعتبر كثير من أعضائها دار الإفتاء مرجعيته وهي التي يرفض مفتيها فكرة وجود الجماعة أصلاً، كما أن نهج الجماعة -في عمومه- يشبه نهج دار الإفتاء في التعاطي مع الشأن السياسي، وهو نهجٌ مربكٌ لكل من يتبناه لعجزه عن التعاطي مع الواقع، فالعمل السياسي لا ينطلق من مبدأ الحق والباطل الذي لا يخفى على أحد، بل العمل السياسي يسعى لدفع الضرر ودرء المفسدة وجلب المصلحة، وموازنة المفاسد والمصالح واعتبار المآلات، وهذا التعاطي هو ما يفرضه الواقع السياسي، وهذا ما تعجز الجماعة عن الوصول إليه في تعاطيها الشأنَ السياسي ويجعلها معزولةً عن الواقع غير قادرةٍ على التأثير فيه.
كما أن ضمور النشاط الدعوي للجماعة وغياب خطابها جعل قاعدتها محدودة جداً وغير مؤثرة، إضافةً إلى أن الدعاية الشرسة الموجهة ضدها جعلت صورتها النمطية في أذهان الناس مقترنة بالرفض مما يجعل فرص نجاحها مجتمعياً ضئيلةً جداً، إضافة إلى ذلك فإن كثيراً من وجوه الجماعة البارزة بعيدةٌ تماماً عن واقع الحالة الليبية، وهي غير مستعدة للتخلي عن حياة الترف التي تحياها متنقلةً بين عواصم عدّة منشغلة عن الشأن الوطني، لذلك فإن تأثير هؤلاء على قرار الجماعة فيما يخص الشأن الوطني سيكون غالباً مجافياً لما يتطلبه الواقع لبعدهم عنه.
إن ما تحتاجه الجماعة ليس مجرد مراجعات وهيكلة جديدة، إنها في حاجة ملحة إلى إعادة تأصيل يعتبرُ الواقع ويتفهمه جيدا ويبني من خلاله كوادره بعيداً عن خطاب العاطفة والاتكاء على الرصيد الفكري للجماعة في أقطار أخرى.
إن تقحّم الجماعة للمشهد السياسي بهذا التيه والعجز والعزلة سيكرّس حالة الرفض المجتمعية المقترنة بها، وستكون عواقبه مدمّرة على الحزب الذي استطاع أن ينجو وينجح في أخطر وأصعب المنعطفات السياسية التي شهدتها الساحة الوطنية وأثبت أنه عنصر توازن مهم في العملية السياسية وثقل اعتدال لا يمكن تجاوزه، كما أن أي شخصية تدفع بها الجماعة في حالتها هذه لقيادة الحزب مهما كان لهذه الشخصية من قدرات القيادة ورصيد الخبرة ستكون مكبلة بقيود فوضى المرجعية ومشوشة بضبابية الرؤية التي تعانيها الجماعة مما سينعكس سلباً على أدائها السياسي والحزب بشكل عام.