مخاضٌ عسيرٌ واجه استحقاق الترتيبات الأمنية التي نص عليها الاتفاق السياسي قبل نحو ثلاث سنوات، وفشل الرئاسي فشلا ذريعا في إقرارها وتنفيذها، وربما تعمّد هذا الفشل زيادةً للفوضى الأمنية التي ستمدد فترة بقائه في السلطة أو هكذا يعتقد رئيس الرئاسي وأعضاؤه.
على أي حال، فقد اضطر الرئاسي بعد مماطلة إلى تشكيل لجنة الترتيبات الأمنية، ثم اعتمدها بعد مماطلة أيضًا، وهي الآن في مرحلة التنفيذ التي تعتبر تحديا كبيرا ستظهر مدى جدية الرئاسي والأجهزة الأمنية المسؤولة، وهي بلا جدال تعتبر المرحلة الأصعب.
الكثير من المتابعين يعتقد أن هذا الاستحقاق المهم مقتصر على العاصمة طرابلس، مع أن الاتفاق السياسي في مواده 33 إلى 47 ينص على أن الترتيبات الأمنية تضم كامل أرجاء ليبيا، ويبدأ الشروع في تنفيذها بالتوازي مع تشكيل حكومة وفاق وطنية.
كان من الممكن أن تكون عملية التنفيذ أسهل بكثير في الفترة ما بعد دخول حكومة الوفاق إلى العاصمة، فالميليشات والمجموعات المسلحة في ذلك الوقت كانت أوهى قوة وأقل فتكا، قبل أن يشتد عودها وتتمدد مقتاتة على الاعتمادات، ومستغلة الوضع الاقتصادي المتردي، ومدعومة من الحكومة الشرعية المتمثلة في الرئاسي.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان: “اشتباكات طرابلس وثمارها المرّة”، فإن أحد الثمار المرة التي نجمت عن اشتباكات طرابلس في سبتمبر الماضي هو “الحد الجزئي لتوغل الميليشيات”، وأنها فقدت جزءا من قوتها ورصيدها، ولم تستطع حينها تحشيد الدعم للقتال معها رغم أن العاصمة يقطنها أكثر من 2 مليون نسمة.
لكن فقدان هذا الجزء سيدفعها إلى إعادة تموضعها، والتفكير في طرق وبدائل جديدة للسيطرة، بعدما أصبحت الترتيبات الأمنية أمرا واقعا لا مناص منه، وتقلصت الخيارات أمام أمراء الميليشيات: إما الرضوخ لهذه الترتيبات أو الاستبعاد والعقوبات.
هذه البيئة الملائمة نسبيا، كذلك الضغط الخارجي المتمثل في بعثة الأمم المتحدة، سرّع من وتيرة التنفيذ، فبعد قرار وزير الداخلية بتسليم المقرات في 16 أكتوبر، لم يمر أسبوع حتى بدأ تسليم المقرات في 25 أكتوبر، شمل ذلك وزارات ومصارف وفنادق ومقار لأجهزة أمنية.
وفي مقابل هذه الوتيرة السريعة، تواجه الترتيبات الأمنية تحديات جمة، أبرزها إبقاء االمقرات المُستلمة في أيدي الدولة، واستيعاب أفراد المجموعات التي سلمت مقارها ومواقعها، كذلك التعامل مع المجموعات الرافضة لهذه الترتيبات خاصة المسيطرة على المرافق الحيوية كالمطارات والوزارات، والأهم هو توفير استقرار أمني في عموم العاصمة يكون سببا لرجوع السفارات والمكاتب الدبلوماسية من جديد.
وبالتالي، فإن من المهم في تقديري أن يسير المجلس الرئاسي في خطوات مهمة لمواجهة هذه التحديات، منها:
- قرار بتأسيس مركز مراقبة سير الوضع الأمني بشكل عام، وسير الترتيبات بشكل خاص، وتسجيل أي خروقات من الممكن أن تحدث أو تعرقل تنفيذ الترتيبات.
- تدريب قوات الأمن الرسمية والسعي لجلب أسلحة نوعية لها، خاصة بعد تصريح غسان سلامة مؤخرا بأنه في حال بناء التشكيلات المسلحة الجديدة بعد اتفاق سبتمبر الماضي، ستحصل ليبيا على استثناء من لجنة العقوبات بمجلس الأمن لتسليح هذه القوة.
- قوات الشرطة فاقدة لهيبتها في الشارع بعد سيطرة الميليشيات، والتعبئة الإعلامية ستكون علاجا فاعلا لهذا الموضوع.
إن الترتيبات الأمنية تعدّ، على أهميتها، موضوعا حساسا ربما يعيد العاصمة إلى حالة الفوضى والاقتتال من جديد في حال فشلها، وهو ما يحتم على الرئاسي التعامل بجدية ومسؤولية لإنجاحها، ثم الانتقال بها إلى باقي المدن الليبية، خاصة في الجنوب الذي يعاني هشاشة أمنية كبيرة، والشرق الخارج مطلقا عن سيطرة حكومة الوفاق.